بعيدا عن الشحنات الإيمانية والروحية التي انحفرت علي كل خلايايا.. وسرت في شراييني ووجداني.. فإن رحلتي للعمرة- وهي الأولي للاسف الشديد- ضربتني بقسوة لأ تأمل حال هذه الأمة.. ففي الحرمين الشريفين يهطل مئات الألوف من كل فج عميق وكأن (الشوارع بتولد ناس) خاصة في أوقات الصلاة حيث يتعطل المرور تماما في الشوارع المحيطة بالحرمين.. ويسعي الناس بكل الجدية والحيوية ليلحقوا بصلاة الجماعة.. وفي الروضة الشريفة في المسجد النبوي (مابين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).. وفي الطواف حول الكعبة يكتسي الناس بأردية التصميم والعزم والإصرار.. لحجز موضع قدم في الروضة أو للمس الحجر الأسود.. وكثيرا ما يتحول التصميم والعزم إلي نوع من الصراع والتكاتف الذي يصل احيانا إلي حد العنف.. وعندما يصبح الإنسان جزءاً من هذه المشاهد الإيمانية يحلق في سماوات الرضا والنور.. ولكن هذا لا يمنع تصارع الاسئلة في العقل والوجدان.. فكيف لهذه الآلاف المؤلفة والتي يصل عددها في كل عام إلي ملايين (العمرة والحج) ان تكون جزءاً من أمة ضعيفة مهانة ذليلة.. ارتضت أن تعيش في (شرنقة العجز)- هذه الأمة التي تخطي تعدادها المليار ونصف النسمة.. موزعون علي سبع وخمسين دولة إسلامية.. منها 22 دولة عربية كان من المفترض أن تظل كما كانت في صدر الدولة الإسلامية - تقود العالم الإسلامي وتدفعه إلي التميز والتفوق أو علي الأقل إلي الندية مع غيره من العوالم الأخري.. فكيف استدار الزمان ليتحول الإسلام علي ايدينا من طاقة عملاقة تدفع دوماً إلي العلم والإنتاج والقدرة علي المنافسة إلي مجرد طقوس محكومة بوقت أدائها فقط.. ثم تتباعد رويداً رويداً عن مقاصد الدين الحقيقية.. إنني لا أريد (تسييس) المشاعر الدينية ولكني أجتهد في محاولة فهم هذا الدين العظيم الذي يحض علي العلم والتعليم والمعرفة والعمل والاجتهاد.. إلخ ويرفض الفساد وتوريث الحكم والاحتكار.. الخ.. ولكننا رغم اجتهادنا الحقيقي في أداء المشاعر الدينية إلا اننا نبعد كثيراً عن المقاصد الحقيقية لهذا الدين الحنيف.. فكيف ننسي قول الرسول صلي الله عليه وسلم (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).. وكيف لهذه الملايين التي تهرول بكل العزم في حر الظهيرة وقبل الفجر لتلحق بصلاة الجماعة.. كيف لها ان تنسي (قيمة الجماعة والتوحد).. وكيف لها ان ترتضي المهانة والمذلة في أوطانها.. فلو خرج المصلون في أي دولة من الدول الإسلامية الظالم حكامها - وما أكثرها- بعد أي صلاة ليقفوا في ميدان عام صامتين ورافعين لافتات تعبر عن مطالبهم لاستجيب لهذه المطالب فوراً شريطة ان يمتلك الواقفون التصميم والعزم والاصرار الذي يتلبسهم عند السعي إلي الحرمين الشريفين. وكيف لهذه الملايين ان ترضي الدنية في وطنيتها وفي دينها عندما ترضي الخنوع والخضوع في مواجهة المخططات (الصهيوأمريكية) لتركيع هذه الأمة واذلالها.. ان إسرائيل أو أمريكا لن تكونا ابدأ اقوي من الفرس أو الروم أو أوروبا عندما رفعت راية الحروب الصليبية.. فكل هذه القوي الكبيرة والعملاقة لم تصمد أمام المسلمين عندما كانوا يفهمون الإسلام علي حقيقته.. ويدركون المقاصد الحقيقية للمشاعر الدينية.. فالإسلام دين سلام وتعاون ولكنه يرفض الغطرسة والظلم ويواجه التعدي.. ويذهب إلي الحرب لرد الحقوق كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي: (الحرب في حق لديك شريعة ومن السموم الناقعات دواء) انني أتمني وأدعو الله أن يعود المسلمون من رحلات العمرة والحج إلي أوطانهم ومعهم كل التصميم والعزم والاصرار ليواجهوا كل الظالمين والفاسدين. ان رحلتي الأولي للعمرة قد ملأتني بكثير من المشاهد والمشاهدات ولكن المفارقة بين عزيمة المعتمرين ومهانة الأمة فرضت نفسها- ومن المشاهد والمفارقات الأخري ان التوسعة في الحرم النبوي تحفة معمارية رائعة بساحته الخارجية الفسيحة ومطلاته الرائعة، ودورات المياه الكثيرة جدا والمستترة تحت الأرض هي والجراج العملاق للسيارات، بينما التوسعات في الحرم المكي عملت علي زيادة سعة الحرم ولكنها حاصرت الكعبة بكثير من الكتل الخرسانية إضافة إلي كثير من المباني العملاقة حول الحرم والتي يشعر الإنسان انها (تخنق الحرم) كما ان الساعة العملاقة التي اقيمت حديثا قد شوهت الفضاء المحيط بالحرم وخطفت الأضواء من مآذنه.. كما ان التهوية في الحرم الملكي تحتاج إلي اعادة نظر وحلول ابتكارية خاصة وأن رمضان سيظل لعدة سنوات يأتي في الصيف.. والأهم ان دورات المياه في الحرم المكي بعيدة وعددها غير كاف.. ورغم كل ما يمكن ان يلقاه الإنسان من عناء إلا ان مجرد الجلوس في الروضة الشريفة أو النظر إلي الكعبة المشرفة يغسل الهموم والأحزان.. بأنوار قدسية تملأ القلب والوجدان.