ما يحدث ليس تطوير موانئ، بل إعادة صياغة علاقة مصر بالعالم، الدولة التى تملك عقدة شبكة الملاحة بين آسيا وأوروبا تملك، بالضرورة، جزءًا من القرار الاقتصادى للمنطقة، وكل خطوة جديدة على رصيف، أو منطقة صناعية، أو محطة لوجستية، ليست إضافة هندسية؛ هى تثبيت جديد لموقع سياسى يزداد صلابة. فى عالم يتغير بسرعة بين حروب فى البحر الأحمر، وتوترات فى شرق المتوسط، وأزمة فى سلاسل الإمداد العالمية لم يعد الميناء مجرد بنية تحتية، بل أصبح: أداة تفاوض سياسى، ضمانة أمن قومى، منصة لتحالفات مع آسيا وأوروبا، عنصر جذب للاستثمار المباشر. صياغة دور جديد لمصر فى المنطقة، دور يجعلها ليس فقط دولة مستقرة، بل دولة ضرورية، ودولة الضرورة لا يخفت صوتها، ولا تتراجع مكانتها، ولا يغيب تأثيرها. حين تمدُّ مصرُ موانئها فهى لا توسِّع أرصفتها بل توسِّع معنى وجودها، هناك مشروعات تمرُّ على الدول كصفحات فى دفاتر الحكومات، وهناك مشروعات تغيّر موقع الدولة فى خرائط العالم وما تفعله مصر الآن فى موانئ البحرين الأحمر والمتوسط ينتمى إلى الفئة الثانية؛ ليس لأنه ضخم فى حجمه، بل لأنه ضخم فى أثره، وفى الرسالة التى يحملها، وفى إعادة تعريف معنى «مصر» داخل الاقتصاد الدولى. تطوير 14 ميناءً وإنشاء خمسة جدد، ونحن نتابع هذه الأرقام قد نظن للوهلة الأولى أننا أمام تقرير إنجازات عادى لكن الحقيقة أبعد وأعمق: مصر تُعالج جذور أزمة اقتصادية تاريخية عبر إعادة هندسة جغرافيتها الاقتصادية، وتحويل نقطة التفوق الطبيعية (الموقع) إلى رأسمال سياسى واقتصادى يصعب منافسته، أن تصبح مصر «مركزًا إقليميًا للنقل واللوجستيات» ليس شعارًا دعائيًا، بل انتقال من دور الدولة التى يمرّ العالم من جوارها إلى الدولة التى يمرّ العالم عبره، هذه النقلة، فى ذاتها، ليست إنجازًا هندسيًا بل تغييرًا في نظرية الدولة: أن تصبح القناة ليست مجرد ممر، بل منظومة اقتصادية كاملة، تتوزع فيها الموانئ كعقدة شبكية واحدة من البحر الأحمر إلى المتوسط، هذه هى المرة الأولى التى نرى فيها شبكة من هذا النوع تُدار برؤية واحدة، لا كمشاريع منفصلة تُكمل بعضها بالصدفة. فى شرق بورسعيد، حيث يحتل الميناء موقعه المتقدم عالميًا، يتجلى المعنى الحقيقى لهذا التحول. مصر لم تبنِ رصيفًا جديدًا فحسب، بل بنت مركز ثقل اقتصاديا يستوعب 116 ألف فرصة عمل، وجذب استثمارات تتجاوز 11 مليار دولار، وأعاد إحياء المنطقة الاقتصادية لقناة السويس كفضاء لوجستى وصناعى لا يمكن تجاهله، لا يهم الرقم هنا بقدر ما يهم السؤال الذى يفرض نفسه على كل خريطة اقتصادية جديدة: لماذا يستثمر العالم هنا تحديدًا؟ والإجابة ليست فى الرصيف ولا فى الميناء، بل فى الربط: ربط البحر الأحمر بالمتوسط، وربط الشحن بالصناعة، وربط التجارة بالترانزيت، وربط الموقع الجغرافى بموقع سياسى جديد للدولة، هذا الربط هو جوهر «الميزة التنافسية» التى تُبنى الآن، فالعالم يعيش لحظة اضطراب غير مسبوقة فى ممراته التجارية، والدول تبحث عن ممر آمن ومستقر يمكن الاعتماد عليه وحين تقدّم مصر نفسها كدولة مستقرة، بممر محمى، وبنية متطورة، وبقيادة سياسية تمتلك إرادة التنفيذ فهى لا تزاحم أحدًا، بل تملأ فراغًا عالميًا كان ينتظر من يحمل عبء المسئولية. فى الجوهر، ما يحدث ليس تطوير موانئ، بل إعادة صياغة علاقة مصر بالعالم، الدولة التى تملك عقدة شبكة الملاحة بين آسيا وأوروبا تملك، بالضرورة، جزءًا من القرار الاقتصادى للمنطقة، وكل خطوة جديدة على رصيف، أو منطقة صناعية، أو محطة لوجستية، ليست إضافة هندسية؛ هى تثبيت جديد لموقع سياسى يزداد صلابة. اللافت أن الرئيس، فى كل مناسبة يتحدث فيها عن الموانئ، لا يركز على البنية التحتية فقط، بل على «فكرة الاستفادة من الموقع» وهى فكرة غائبة لعقود طويلة، كأن مصر كانت تمتلك كنزًا لا تعرف كيف تستخدمه، والآن أصبح هناك مشروع متكامل يخلق من الموقع «ميزة صناعية» وليس مجرد «ميزة مرورية» ومن المهم هنا إدراك أن هذا التحول لا يحدث فى فراغ، بل فى سياق إقليمى معقّد: حروب فى البحر الأحمر، صراعات على الممرات، تنافس على جذب خطوط الشحن ومع ذلك، نجحت مصر فى أن تحافظ على أهم ما تحتاجه الموانئ: الاستقرار. وهذا هو العامل الذى لا يمكن شراؤه بمال ولا هندسته بقرار، فالاستقرار هو الذى يجعل المستثمر يغامر، والشركات تخطط لعقود طويلة، والطرق البحرية تتخذ من الدولة نقطة ارتكاز وهنا قد يسأل أحدهم: وماذا بعد كل هذا؟ هل تكفى الموانئ وحدها لإعادة صياغة الاقتصاد المصرى؟ والحقيقة أن الموانئ ليست هدفًا فى حد ذاتها، بل منصة: منصة لتوطين الصناعة، لزيادة التصدير، لجذب الشركات العالمية، لصناعة القيمة المضافة داخل مصر وليس خارجها، ما يُبنى الآن هو مقدمة لمستقبل اقتصادى مختلف، اقتصاد يعتمد على الإنتاج والنقل واللوجستيات، لا على الاستهلاك فقط. مصر لا تُطوِّر البحر... مصر تُعيد تموضعها على خريطة العالم. والموانئ ليست مجرد بوابات بحرية، بل بوابات سياسية واقتصادية تفتح أمام الدولة فرصة نادرة: أن تتحول من دولة «تمرّ بها التجارة»... إلى دولة «تعيد تشكيل مسار التجارة». وهذه ليست عملية بناء.. هذه عملية استعادة مكانة.