عندما تفجرت أزمة د. هاني هلال وزير التعليم العالي والبحث العلمي، ود. محمد السعدني الرئيس السابق لمدينة مبارك للعلوم، بدأ الأمر للوهلة الأولي وكأنه خلاف في أسلوب إدارة العمل أو خلاف في وجهات النظر بين رئيس ومرءوس، ولكن المراقبين أو العالمين بالأمور كانت لهم وجهة نظر أخري، وهي أن الأمور لا تسير وفق الظاهر، وكان حسم الأمر من البداية وكشف الحقائق كاملاً وبدلاً من سياسة الصمت المريب التي صاحبت وقائع هذا الخلاف كفيلاً بإنهاء هذه الأزمة منذ بدايتها، وقبل أن تتصاعد إلي حدود وتجاوزات تصيب الجميع بالرذاذ، خاصة أوضاع البحث العلمي في مصر ومستقبله ومستقبل شباب الباحثين فيه. فمنذ منتصف الأسبوع الماضي بل وقبله قليلاً عاد الخلاف إلي دائرة الضوء وعبر الصحف والفضائيات ليتهم د. محمد السعدني مؤسسات البحث العلمي في مصر، بقوله إن هناك اختراقًا إسرائيليا للمؤسسات العلمية في مصر، وبعبارات لا تحتمل التأويل، كان هناك اتهام غير مباشر لوزير التعليم العالي د. هاني هلال بأنه علي علم بالأمر!!.. والغريب في الأمر أنه حتي الآن لم يصدر بيان رسمي حول هذه الاتهامات، وأنا لا أقصد بيانًا رسميا من وزارة التعليم العالي فقط وإنما أقصد بيانًا كاملاً من الحكومة المصرية، لأن الأمر أصبح لا يمكن السكوت عليه، وخرج من إطار الخلاف الشخصي أو في العمل إلي الفضاء الأوسع، وهو اتهام الحكومة بعلمها بالاختراق الإسرائيلي للمؤسسات البحثية، بل الأكثر من ذلك أنها توظف وتكلف أشخاصًا في مناصب الوزراء، لديهم النسبة أو علي الأقل غض الطرف فيما يمس الأمن القومي المصري، كنت أتصور بجانب إحالة الأمر للقضاء وللنائب العام أن تثور الحكومة علي هذه الاتهامات، خاصة أن الاتهامات لم تصبح تمس وزير التعليم العالي فقط بل تمس الحكومة والشعب أيضًا، لأنه من غير المقبول أن يقبل الشعب المصري وأساتذته مثل هذه الاتهامات الشنيعة. ثانيا: إن الأزمة لم تنته بعد بل هي تكبر كل يوم مثل كرة الثلج، وأنها أصبحت تهدم في كل يوم أحد الثوابت أو حتي بواعث الأمل في المستقبل، وأعتقد أن المستفيد الأكبر والأول من وراء ما يحدث الآن والصمت عليه هو إسرائيل في المقام الأول، لأن مجرد ترديد اسمها في الصباح والمساء وعند كل قضية وخلاف، يمثل الفزاعة الجديدة الكفيلة بهروب الجميع من أي عمل، وأعتقد أن هذا ما تريده إسرائيل بالفعل أن تظل التابوه أو الفزاعة التي تشل حركتنا وفكرنا وخطط عملنا للمستقبل، وبالتأكيد ليس هذا معناه الدخول معها في شراكة أو تعاون فهي ستظل لنا مهما حدث من معاهدات، شخص غير مرغوب فيه، ولكن علي الوجه الآخر علينا أن نسير في الطريق والخطط التي نرسمها لأنفسنا ولا نلتفت إلي التفاهات وإلي الفزاعة التي تطلق من حين لآخر في وجه المصريين، لأن في استمرار مسيرة المصريين إلي الأمام والبحث عن المستقبل هو الحرب الحقيقية التي تخشي منها إسرائيل، لأن المحاولات الدائمة التي التحقير والتقليل من شأن الذات والمستقبل هو السلاح الذي نهدم به أنفسنا قبل أن يهدمنا الآخر، وتعالوا تصوروا معي نتيجة حملة التخويف من الشراكة العلمية مع العالم المتقدم سواء كان يابانيا أو فرنسيا أو أمريكيا، لأن بعد حملة التخويف هذه، سوف يهرب الجميع خاصة شباب الباحثين بجلدهم من أي شراكة علمية، إيثارًا للسلامة وبعدًا عن القيل والقال، فلماذا نهيل التراب علي كل شيء أليس في ذلك خدمة للمصالح والأهداف الإسرائيلية في النهاية؟ تبقي جملة بسيطة أحب أن أوضحها، وهي أنه في عصر العولمة والتطوير التكنولوجي الذي يعيشه العالم الآن، لا توجد معلومات سرية أو بند "سري للغاية" بل هناك معلومات متاحة للجميع، وهذه ليست معضلة ولكن المحوري والمهم فيها هو تحليل هذه المعلومات والوصول بها إلي نتائج محددة تستطيع أن تساهم في تطور ما أو نتائج أو حلول لبعض القضايا، ولا يجب أن ننسي في وسط ما يجري أن إسرائيل نفسها تصرف علي البحث العلمي ما يزيد علي موازنة البحث العلمي في مصر عشرات المرات، وأن 6 جامعات إسرائيلية دخلت التصنيف العالمي لأفضل 500 جامعة في العالم، كما يجب ألا ننسي وهذا هو المهم أن الغرب بل والعالم كله يفتح أبوابه للعلماء الإسرائيليين والدخول في شراكة علمية معهم، إذن هم يسيرون وفق مخططهم الذي وضعوه لأنفسهم من البداية ولم نجد أنه عرقلة لمشاريعهم نحو المستقبل فزاعة مصر أو حتي أي من الدول العربية، لأنهم يعلمون أن المستقبل رهن فقط بالعلم والمعرفة وليس بالخرافة والفزاعة أيا كانت سماء كان اسمها إسرائيل أو التيارات الدينية المتطرفة ويحضرني هنا مقولة لأحد أقطاب إسرائيل حينما ذكر أنه لا يشعر بالخوف الآن، ونحن سنشعر بالخوف من المصريين حينما نجدهم منظمين ويسيرون نحو المستقبل، هنا فقط سوف يشعر الإسرائيليون بالخطر، فتقدمنا هو ما يرعب إسرائيل حقًا وليس مجرد الفزاعة التي ترفع بين حين وآخر والتي للأسف لا تهدم د. هاني هلال فقط أو حتي الحكومة المصرية، وأنا هنا لا أدافع عنه أو عنهم فهم لديهم رجالهم للدفاع عنهم وإنما لأن رذاذ ما يحدث يصيب المصريين جميعًا، خاصة شباب الباحثين الحالم بتوافر الأموال من أجل بحث علمي حقيقي، وهذا لن يتوافر إلا من خلال الشراكة العلمية مع الخارج، فرفقًا في المعارك الوهمية بالزج بالمستقبل فيها وبالشباب وبالعلماء في معارك شخصية لا طائل من ورائها. النقطة الثالثة التي يجب أن نتوقف عندها أيضًا في هذه الأزمة ما قيل وصرح به حول كيفية تطوير البحث العلمي في مصر، فقد لاحظت في الآونة الأخيرة أن كثيرًا من المسئولين عن البحث العلمي في مصر تتركز رؤيتهم كلها للبحث العلمي وتطويره لتكون من خلال تسليعه بمعني أن مقياس النجاح يكون في عمل مناطق استثمارية للشركات العالمية في مصر!! وهذا ليس ببحث علمي حقيقي، وإنما سياسة تسويقية لأرضنا وباحثينا من أجل جلب استثمارات عالمية للأسف وصلت إلي مؤسسات البحث العلمي، فأنا حتي الآن لا أفهم كيف تكون مراكزنا البحثية والعلمية "مناطق جذب استثماري أو مدن استثمارية"، قد نفهم أن تقام جامعات مشتركة مع الدول الأجنبية أو مراكز علمية مشتركة، ولكن لم أفهم كيف تكون مدنًا لجذب الاستثمار، وما لا أفهمه أيضًا هو النظرة التسويقية للعلم والاختراع، حتي إن بعض القيادات العلمية الآن، ومنهم د. السعدني نفسه قال إن مصروفات تسجيل براءات الاختراع مرتفعة الثمن جدًا، فهل يعني ذلك ضمنيا أن العلم والاختراع، مكلف ولا نقدر عليه وعلي إنتاجه مثلما لا نستطيع ارتداء الملابس "الصينية" ونفضل عليها الماركات المضروبة المقلدة، وهل هذا هو المبرر لانخفاض حجم وعدد براءات الاختراع في مصر أم أن لهذاعلاقة بأن الموازنات التي تخصص للبحث العلمي كبيرة جدًا حتي إن مدينة مبارك العلمية بل وغيرها أيضًا، أعادت أموالها وجزءًا من موازنتها إلي الدولة مرة أخري!! وهل لنا أن نتساءل هل هناك علاقة بين هذا المنهج التسويقي في إدارة البحث العلمي في مصر وبين تدني مستواه حاليا؟ وسوف استعير كلمات للدكتور زويل حينما قال إن القضية في البحث العلمي ليس في توفير المعلومات، فهي يمكن توفيرها بوسائل العلم الحديث والتكنولوجيا، بل حتي يمكن سرقتها وهذا فرق بين المعلومات والفكر والتحليل فهذا هو البحث العلمي الحقيقي. ومبروك لمصر ومستقبلها وللبحث العلمي ما يجري الآن علي الساحة!!