شكلت عدة دول آسيوية مهمة مثل "تركمنستان وأذربيجان وأوكرانيا وتركيا وأخيرا إيران"، محور إرتكاز لتلك الإستراتيجية الغربيةالجديدة، خصوصا وأن لها مصالح حيوية في التجاوب مع ذلك التوجه الأمريكي الأوربي. فتركمنستان، التي تمتلك واحدا من أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم ويتوقع أن تمد وحدها خط نابوكو ب 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً، تتطلع إلي الاستفادة من عوائد تصدير الغاز لتمويل برامج ومشروعات التنمية الشاملة المعطلة بها منذ سنوات، مستفيدة من تخلي أوروبا عن سياسة انتقاد أوضاع حقوق الإنسان في تركمنستان لئلا يبقي هذا الأمر عقبة أمام تفعيل التعاون مع عشق أباد في هذا المجال، خاصة وأن تفعيل اتفاق التجارة بين الجانبين ظل متعثرا لأنه كان مشروطا بتحسن أوضاع هذا الملف في البلاد بموجب قرار البرلمان الأوربي في فبراير من العام 2008، لاسيما بعد أن أكدت أزمة الغاز الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا لأوربا أهمية البحث عن مصدر أكثر أمناً لإمدادات الطاقة بعيداً عن التجاذب الروسي الأوكراني المتواصل، ما دفع البرلمان الأوربي إلي إعادة توجيه العلاقات مع "عشق آباد" بعد التخلي عن انتقاداته مؤقتاً في محاولة للحصول علي فرص أكبر للعمل في قطاع الغاز الطبيعي هناك. وتسعي "عشق أباد" إلي تنفيذ المشروع علي الرغم من العقبات التي تواجهه، والتي أهمها المعارضة الشديدة لكل من روسياوإيران إلي جانب المخاوف من التداعيات السلبية علي البيئة والخلاف مع باكو حول نسبة اشتراك كل طرف في الأنبوب إلي جانب الخلاف علي الحدود البحرية في قزوين. ونفس الشيء يسري علي كل من أذربيجان وأوكرانيا اللتين تسعيان لإسترضاء واشنطن وتحقيق مكاسب شتيعلي أكثرمن صعيد. وفي إطار إمكانات التوصل إلي شراكة استراتيجية معمقة تساهم في تزويد الإتحاد الأوروبي باحتياجاته من الغاز القادم من بعض الدول ونقله بشكل آمن عبر بعضها الآخر، استضافت العاصمة التشيكية براغ في شهر مايو الماضي2009، قمة جمعت كبار مسئولي الاتحاد الأوروبي، ودول آسيا الوسطي، وجنوب القوقاز، والشرق الأوسط، بغرض حصول الإتحاد الأوربي علي التزام مشترك من دوله والدول المشاركة في القمة من أجل التعاون والعمل لإنشاء ممر آمن للغاز من دول القوقاز وآسيا الوسطي والشرق الأوسط باتجاه أوروبا. وجاء مشروع "ممر الجنوب"، الذي يتضمن إنشاء وتطوير أربعة أنابيب لنقل الغاز باتجاه أوروبا عبر آسيا الوسطي وجنوب القوقاز والشرق الأوسط ضمن إطار خطة أوروبية طموحة تهدف إلي تحسين أمن الطاقة الأوروبي، وترتكز علي تنويع مصادر التزويد، وتأمين طرق النقل، وتوسيع طيف الأطراف والشركات المنفذة للمشاريع الخاصة بالبني التحتية وسوق الطاقة. إشكالية تأمين خطوط الإمداد بالطاقة: لا يقتصرالأمر بالنسبة للغرب علي إيجاد موارد بديلة للنفط والغاز لا تمر بإيران أو روسيا ولكن المشكلة أعمق بكثير، ذلك أن جوهر الصراع الجيو- سياسي الحالي في آسيا الوسطي مزدوج، فهو يتعلق بشقين:أولهما، السيطرة علي إنتاج النفط والغاز الطبيعي. وثانيهما، السيطرة علي خطوط الأنابيب التي ستنقل النفط إلي الأسواق الغربية وتأمينها. وفي هذا السياق، أعد بول ستيفنس، خبير الطاقة في معهد "تشاتام هاوس" في لندن تقريرا مفصلا عن مشاكل نقل النفط دولياً تحت عنوان" مشاكل العُبور: أنابيب النفط كمصدر للنِزاعات"، يتطرق فيه إلي واقع نقل النفط من مصادره إلي مستهلكيه في أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية خاصةً.وأوضح خلاله كيف أن الحوادث الأخيرة بين روسبا وجورجيا في عام 2008، ثم بين روسيا وأوكرانيا في عام 2009، قد أعادت تسليط الأضواء الإعلامية علي مشكلة عبور أنابيب النفط بين الدول، خصوصا بعد أن أصاب الهلع دول أوروبا حين قصف سلاح الجو الروسي موقعاً قريباً من خط الأنابيب النفطي "باكو- تبليسي-جيهان" في جورجيا خلال الحوادث التي وقعت بين روسيا وجورجبا عام 2008. وإلي جانب الخلافات والصراعات بين الدول، يجب أن لا نغفل أن نظم العبور وعائدات الدول من استعمال أراضيها لنقل البترول هي أمور لها أبعاد اقتصادية أيضاً. فأنابيب العبور هذه، هي مسارات محددة لنقل الطاقة إلي الأسواق عبر أراضي دول ذات سيادة، إلا ان تعدد الجهات المستفيدة وتضارب مصالحها أحياناً، وطبيعة التنظيم والأرباح وعائدات العبور إضافة الي نقص الخبرات الاقتصادية والبنية القانونية الأساسية واختلاف شروط الصفقات والمقايضات، وما يسود من توتر في العلاقات السياسية بين الدول وموازين القوي، غالباً ما تتسبب كل ذلك بمشاكل بين الدول الأطراف، خاصة في غياب التشريع الموحد والسلطة أو المرجعية القضائية الواحدة التي تحّل النزاعات. تنامي أهمية تركيا: وجاء الدور التركي في هذا المضمار، ففي مسعي منها لتوظيف رصيدها الهائل في القارة الآسيوية والمتمثل في موقعها الجيوبولتيكي الفريد علاوة علي امتداداتها الحضارية في دول آسيا الوسطي الناطقة بالتركية، حرصت تركيا علي أن تكون لاعبا أساسيا في مشاريع نقل الطاقة من آسيا الوسطي والقوقاز إلي أوربا عبر تقديم نفسها كممر إستراتيجي لنقل البترول والغاز الطبيعي من دول آسيا الوسطي والقوقاز إلي أوروبا، إذ عمدت تركيا إلي مغازلة الأوربيين والأمريكيين من خلال إبدائها استعدادا هائلا للتعاون معهم في الإستراتيجية الغربية الرامية إلي تقليص الاعتماد الغربي علي إمدادات الغاز الروسية.فبعد أن برزت أهمية منطقتي أسيا الوسطي والقوقاز بالنسبة لأمن الطاقة الأوربي، ظهرت مجموعة أفكار أخذت شركات تنقيب وتكرير النفط تتداولها بشأن أمن خطوط النفط والملاذ الجغرافي المستقر سياسياً لتمديد الأنابيب. فظهرت عدة مشروعات وأدي الاختلاف علي خطوط الأنابيب إلي رفع درجة حرارة التنافس بين روسياوإيران وتركيا، التي دخلت علي خط المشروعات وتنافست من أجل تأمين شبكة من الأنابيب تنقل النفط من قزوين إلي ميناء جيهان علي البحر المتوسط ومناطق أخري تقع علي شاطئ البحر الأسود. وقد مثلت مشكلة خطوط الأنابيب وانسياب الطاقة وضمان عدم تعطلها أو توقفها نقاط تقاطع بين شركات التنقيب وحقول الإنتاج وبين الدول المنتجة وتلك الأراضي التي تحتاجها لمرور خطوط النقل. فالشركات تبحث عن الربح والمناطق الآمنة والدول تتنافس لكسب ثقة الشركات من خلال توفير دفاتر شروط معقولة سياسياً ومضمونة أمنياً. وبسبب تجدد انهيار الوضع الأمني في أفغانستان وامتداد الفوضي إلي باكستان تراجعت فكرة مد الأنابيب في هذه المناطق، وبسبب مخاوف الشركات الكبري من احتمال تحكم إيران بمصادر الطاقة وخطوطها وصولاً إلي مضيق هرمز، وخوفاً من أن تتوصل روسيا إلي لعب دور خاص في إدارة مشروعات الإنتاج والتنقيب والتكرير، توجهت الشركات إلي تغليب خط (أذربيجان - جورجيا - تركيا) لحسابات سياسية وأمنية. من هنا، ظهرت أهمية تركيا كحلقة مهمة في أية ترتيبات من هذا النوع كمعبر لنقل النفط والغاز إلي أوربا كونها توفر شروط ملائمة لذلك إقتصاديا وأمنيا وبنية تحتية ، لاسيما وأن خط الشمال والجنوب الذي يبدأ من بحر قزوين ويمر بتركمانستان وأفغانستانوإيران وقطر والإمارات وينتهي في الهند سيكون غير ذي أهمية بسبب المشاكل البيئية والتجارية الخطيرة التي ترتبط بالدول المشتركة فيه، وهو ما يجعل من خط باكو جيهان "الشرق- الغرب" هو الأمثل بالنسبة للبترول والخط العابر لقزوين هو الأمثل بالنسبة للغاز، وهو الخط الذي يربط بين دول آسيا وأوروبا الغربية عن طريق أنابيب البترول والغاز بدء من منطقة سنجق شال علي ساحل بحر قزوين بالقرب من العاصمة الآذرية باكو، ثم يتجه للحدود الجورجية بطول 468كم، ومن جنوب العاصمة الجورجية تبليسي يسير جنوب الحدود التركية بطول 225كم ثم أذربيجان وبعدها لمدينة سيواس ثم فوزان وأخيرًا ميناء جيهان التركي علي خليج الإسكندرونة في البحر الأبيض المتوسط وهي مسافة بطول 1037كم وبذلك يكون طول الخط الإجمالي 1730كم. تقارب اضطراري بين طهرانوواشنطن: برغم الخلافات المزمنة والمستعصية بين واشنطنوطهران، أبي أمن الطاقة الغربي إلا أن يجبر الطرفين علي العمل معا في محاولة لتلافي إشراك روسيا في خطوط إمداد الغاز من وسط آسيا لأوربا، خصوصا وأن إيران تعد أحد النقاط المهمة التي سيمر بها الخط البديل. وفي شهر أبريل الماضي، جاءت موافقة واشنطن بعد معارضة طويلة بسبب خلافاتها مع إيران وأزمة البرنامج النووي للأخيرة، علي ضخ ايران غازاً في خط "نابوكو". وقد أعلنت واشنطن عن موافقتها هذه في مؤتمر عالمي للغاز عقد في العاصمة البلغارية صوفيا في نهاية شهر أبريل الماضي. ولم تكن الموافقة الامريكية علي إشراك إيران في مشروع خط نابوكو تعني نهاية طموحات الإيرانيين في هذا المضمار، ففي ظل الاتفاق الذي تم مؤخراً بين طهران وعشق أباد اتسعت آمال إيران في الغاز التركماني، حيث يسمح الاتفاق الحالي بإمدادها ب 10 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً من حقل "يولتون" القريبة من الحدود المشتركة بين البلدين، في حين تُعبِر إيران عن رغبتها في مضاعفة وارداتها من الغاز التركماني من 8 إلي 14 مليار متر مكعب سنوياً هذا إلي جانب السماح للشركات الإيرانية بتنمية وتطوير حقل الغاز "يولتون".ويعتبر حقل "يولتون" جزءاً هاماً من حقول غاز الجنوب التركماني المعروفة باسم "عثمان - يولتون" والتي أُدرجت ضمن أكبر خمس حقول للغاز عالمياً من حيث الاحتياطي. وفي إطار الحدود المشتركة بين البلدين والتي تصل إلي ما يقرب من 780 ميل، وحاجة الشمال الإيراني للغاز التركماني، وآمال تركمانستان في أن تكون إيران نقطة انتقال الغاز إلي أوربا، يتضح أهمية إيران بالنسبة للغاز التركماني ليس كمستهلك فقط، بل بوصفها أحد نقاط الانطلاق للأسواق العالمية. الصين تدخل المعادلة: لم تكن المساعي الأمريكية الرامية إلي إعادة هندسة منطقة آسيا بما يتواءم وإستراتيجيتها الجديدة فيها ومتطلبات أمن الطاقة الغربي لتمضي من دون معوقات أو تحديات ليس من قبل روسيا أو إيران فحسب ولكن من جانب التنين الصيني، فلقد بدأت مبكرا بكين جهودها لإقتطاع جزء من كعكة الغاز التركمانستاني حتي تمكنت من إبرام إتفاق مع عشق أباد في يوليو من العام 2007 يتيح للشركات الصينية المشاركة في استخراج الغاز الطبيعي من "باجتيارليك" وبموجب هذا الإتفاق، أضحت تركمانستان ملتزمة بتصدير ما يقرب من 30 مليار مترمكعب من الغاز إلي الصين خلال الثلاثين عاماً القادمة.ويقفز هذا الاتفاق بالاستثمارات الصينية في المرحلة الأولي من المشروع إلي 6 مليار دولار، تشمل أعمال الإستكشافِ في منطقة "باجتيارليك" وأهم حقول الغاز فيها "سماندبي" و"ياشيلدبي" و"ميتيجان" و"جينجي بيك" الواقعة. وينطلق أنبوب نقل الغاز التركماني للصين من شاطئ نهر "أمو داريا" إلي داخل الصين حيث تبلغ المسافة ما يقرب من 7000 كيلومتر، منها 525 كم داخل حدود أوزبكستان و1.293 كم داخل حدود كازاخستان و4.860 كم داخل حدود الصين، ليدخل التنين الصيني بذلك إلي حلبة المنافسة والصراع المحتدم حول أمن الطاقة في القارة الآسيوية.