فيلم يجبرك علي التأسي علي ما آلت إليه الأوضاع ليس في مصر الجديدة وحدها بل في وطن ينسحب منه الجمال ليحل مكانه القبح ! .. التجربة ستمثل نقطة تحول في تاريخ السينما المصرية، كونها المؤهلة لتغيير نمط الإنتاج والوسيلة لكسر احتكار النجوم وتحطيم نظريات شركات الإنتاج التي تضخمت ولم يعد هناك من يردعها بالطبع اختلفت طريقة التناول في كل فيلم من الأفلام الثلاثة، وآخرها فيلم "هليوبوليس" تأليف وإخراج ومونتاج أحمد عبد الله السيد، الذي أنتج بمواصفات ومعايير شديدة الخصوصية، كونه ينتمي إلي السينما الأخري التي لا تعرف النجوم، وشروطهم ولا أجورهم، ولا الطريقة التقليدية التي تُصنع بها الأفلام في السينما المصرية؛فالفيلم اعتمد علي منتج مغامر شريف مندور عُرف ، في الآونة الأخيرة، بقدرته علي دعم وتشجيع التجارب غير السائدة، كما فعل من قبل في فيلم "عين شمس" إخراج إبراهيم البطوط ، كما صور الفيلم بالكاميرا الديجيتال قبل أن يتم نقله إلي شريط السينما ال35 ، وهي العوامل التي هيأت للمخرج أحمد عبد الله السيد ظروفاً فنية ومعنوية أتاحت له تحقيق حلمه من خلال تجربة أكبر الظن أنها ستمثل نقطة تحول في تاريخ السينما المصرية، كونها المؤهلة لتغيير نمط الإنتاج، والوسيلة لكسر احتكار النجوم، وتحطيم نظريات شركات الإنتاج التي تضخمت، ولم يعد هناك من يردعها أو يوقف غيها. في فيلم "هليوبوليس" يبدو أحمد عبد الله السيد وقد تحرر من كل القيود التي تواجه المخرجين في تجاربهم الأولي، فهو يطرح رؤيته ، ويرتب مشاهده، ويحرك عناصره بالشكل الذي يريد؛فالكاميرا محمود لطفي لا تخرج عن منطقة "الكوربة" ، وتحديداً شارع بطرس غالي في مصر الجديدة، وعلي الرغم من هذا لا تشعر كمتلقي بالملل أو الرغبة في الخروج من المكان، نتيجة لنجاح المخرج وقدرته علي تنويع لغته البصرية، ونفس الحال بالنسبة لشخصيات الفيلم المعدودة؛فهناك الباحث في شئون الاقليات خالد أبو النجا الذي يتيح له بحثه فرصة نادرة للقاء السيدة اليهودية عايدة عبد العزيز التي دفعتها الظروف للبقاء في "هليوبوليس" وعدم مغادرتها كأبناء طائفتها، لكنها اختارت أن تكون سجينة شقتها ، وهو الاختيار الذي يعكس موقفاً شخصياً تجاه التغيير الذي شمل المنطقة، وبالطبع الوطن، وأسفر عن تراجع دور"هليوبوليس" وأهميتها ومكانتها كملتقي للثقافات ، وبؤرة لتفاعل الحضارات ، واستيعاب الآخر في صورة الجنسيات المختلفة، حيث البار الفرنسي بجوار المطعم الايطالي والمنطقة التي اختيرت كمقر للمقامة الفرنسية إبان الحرب العالمية، قبل أن ينتهي الدور والمكانة إلي محلات للملابس والأحذية (!) فالفيلم يمرر رؤيته السياسية بشكل غير مباشر، ولا مكان فيه لخطاب زاعق، فالباحث يتصور أنه يملك حرية التجوال في مصر الجديدة، ورصد طرزها المعمارية التي كانت تميزها وأوشكت أن تندثر، لكنها الحرية المرهونة بإرادة وموافقة ضابط الأمن، الذي يرفع شعار الستينيات "ممنوع الاقتراب والتصوير"، وفي هذا السياق لا يفوت المخرج ، وهو نفسه كاتب السيناريو، الفرصة للتنديد بما جري لمصر، منذ خروج الأجانب (!) ويدعم رؤيته بوجهات النظر المؤيدة لهذا الرأي علي لسان تجار مصر الجديدة ، في مزج مبتكر بين التسجيلية والروائية "مصر الجديدة كانت زمان .. قبل عبد الناصر ما يكرُش الخواجات" ، وهي الآراء التي تسفر عنها اللقاءات الميدانية التي يجريها "الباحث"، ولا تبدو دخيلة علي شكل الفيلم ، بل تأتي منسجمة مع المبرر الذي يحرك الباحث ، وأداته الكاميرا الديجيتال التي لا تفارقه ، لكنها تبدو موجهة ومرتبة بشكل مسبق، فمن غير المعقول ألا يخرج شخص واحد عن الإجماع ، ولا يتبني وجهة نظر مغايرة تصب عكس الاتجاه المناهض للثورة ، وكونها سبب كل التراجع والانهيار والتخلف الذي أصاب مصر ! القبح الذي يشير إليه فيلم "هليوبوليس" لا يتوقف عند الطرز المعمارية التي تكاد تختفي أو الفيلات الأثرية التي تصدر لها تراخيص قانونية للهدم والإزالة ، ولا مترو مصر الجديدة الذي تدهور شكله وأحواله ومساره، لكنه القبح الذي طمس وجوه وعقول البشر، وكاد أن يحيلهم إلي "مسوخ"، فالشاب والفتاة يحاصرهما شعور الإحباط الذي يكاد يجهض حلمهما في الزواج الشرعي، فالشقة التي يسعيان إلي تأجيرها تبدو بعيدة المنال، ومعها يتبدد الاستقرار المنشود، و الإحساس لا يفارقهما بأن العمر يتقدم بهما، وهما في ريعان الشباب، ( اتغيرنا ولا كبرنا ولا الزمن بقي أسرع ) واحتمالات التغيير غير واردة بالمرة "بكره زي النهارده" بينما يصبح "الكذب" و"الزيف" وسيلة الفتاة "إنجي" حنان مطاوع للتحايل علي ظروف الحياة، فقد أوهمت أهلها في طنطا بأنها تعيش وتعمل في باريس ، وهي التي لم تغادر "هليوبوليس"، وتعمل كموظفة استقبال في أحد فنادقها الشعبية، وتحبك "التمثيلية" بالجنيهات التي تبعث بها إلي أهلها، لكن تربيتها الريفية لم تغير من أفكارها المتحفظة تجاه الحرية والعاطفة بعكس رفيقتها المغربية سمية جويني التي تبدو متحررة، ورافضة لمنطق المجتمعات الذكورية التي تؤمن بأن "البيت وتربية العيال هو المكان والدور الوحيد للمرأة"، لكن التناقض بين رؤاهما لا يمنع صداقتهما، وهي رسالة أخري تضاف إلي رسائل الفيلم الذي ينادي بالتسامح ويبحث عن السر وراء تراجعه واختفائه ليحل مكانه العنف والتوتر، كما في اللقطة الخاطفة التي رصدت بها كاميرا البطل مظاهر العنف في "هليوبوليس"، وما لازمها من ظهور "الديلر" بصفقاته المحرمة وتحركاته المشبوهة في شوارعها، وفي سياق الرصد الأفقي للشخصيات والمسار العرضي للأحداث يعقد الفيلم مقارنة عابرة بين عسكري الأمن المركزي الذي يأنس بكلب ضال والدكتور القبطي "هاني" أحمد عادل عضو فريق وسط البلد الذي يفكر في الهجرة ويمتلك كلباً يحتسي المياه المعدنية (!) وهو نفسه صاحب الشقة المعروضة للبيع التي يسعي الشاب والفتاة لامتلاكها؛فالفيلم وإن بدت خيوطه متباعدة ، وشخصياته لا رابط بينها، وقد يمر الواحد منهما بجانب الآخر (الشاب والفتاة في اتجاه معاكس لمالك الشقة ) أو تجلس بجانبه ( موظفة الاستقبال وصديقتها في البار الذي ضم الباحث وصديقه ) إلا أنهما لا يلتقيان ، فالمناخ العام انعكس سلباً علي الشخصيات ، والإحباط تمكن منهم باختلاف طبقاتهم الاقتصادية وشرائحهم الاجتماعية. كما نجح كاتب السيناريو أحمد عبد الله السيد في معالجة قضيته من خلال رؤية مرتبة ، ونبرة هادئة غير عصبية أو متشنجة، تبدو قدرته كمخرج علي تقديم لغة سينمائية لا تستطيع أن تتجاهلها أو تتغافل عن تفاصيلها الصغيرة التي تصنع في مجملها المعني العام الذي أراده من الفيلم، فالفيلم يتميز بقدرته علي توظيف عناصر فنية كالديكور مدحت عزيز وتنسيق المناظر أمجد نجيب بشكل مبتكر ، ورؤية خلاقة، ووجود متميز، بينما تلعب الموسيقي أمير خلف دوراً مؤثراً ومكملاً لأجواء الفيلم، وهو ما فعله المخرج أيضاً في توظيفه للشاشات التليفزيونية العملاقة في خلفية مشاهد الشاب والفتاة في "المول التجاري" ، إذ ركز علي مشهد "الحوت الضخم" الذي يبتلع مياه البحر في إسقاط واضح علي الارتفاع المبالغ فيه في الأسعار وابتلاعها للأجور بما يوحي بتفاقم التضخم الاقتصادي، وبنفس الحنكة والوعي الواضح وظف المخرج أغاني عبد الوهاب وسيد درويش وعبد الغني السيد لرسم شخصية عسكري الأمن المركزي بما أغني عن الكلام والثرثرة، فهو في لحظة "البيض الأمارة" وهو "البلبل" وفي لحظة الحوار الصامت بين العسكري والكلب الضال تتردد الكلمات " يا سبب تعذيبي" و"سنتين وأنا احايل فيك" ، والأمر الذي لا شك فيه أن العلاقة بين العسكري والكلب الضال حملت الكثير من الإيحاءات الإنسانية العذبة والتي لا تخلو من شجن، في الوقت الذي خلت المشاهد التي صورت في الكنيسة ، قبل تقديم العرض، من الحيوية والجاذبية، وكان بمقدور المخرج كاتب السيناريو الاكتفاء بشخصية الدكتور القبطي، فالمخرج كان شديد الوعي بما يفعل، وخبرته كفنان للمونتاج أنقذته ، والفيلم بأكمله، من الترهل ، باستثناء مشاهد الكنيسة، فهو الذي كثف لحظة شعور عسكري الأمن المركزي بالصدمة، وهو يستمع للتراتيل والترانيم الكنسية ، وكأنه فوجيء بأنه يحرس "الكنيسة" ، وهو الذي لعب وتلاعب بالإضاءة الطبيعية ، سواء في تركيزه علي الإشارة الصفراء للتحذير من خطورة الأوضاع التي يمر بها الوطن أو الإضاءة الشاحبة والباهتة المنبعثة من عمود الإنارة، في إسقاط جديد علي حالة الميوعة والتعتيم والشحوب التي تتسم بها الحياة في هذا الوطن، وبنفس الروح الانتقادية الساخرة كان توظيفه للجرافيك بشكل عبثي في مشاهد حلم موظفة الاستقبال حنان مطاوع بالسفر والتجوال في شوارع وميادين باريس، فقد قدمها بوصفها رحلة "كاريكاتورية" تتناسب ، وكونها خيالية، وغير واقعية، وجاءت الرسومات في الخلفية لتؤكد هذا المعني، لكنه في المقابل لم يوظف مشهد سقوط اللوحة التي تحمل صورة برج إيفل علي رأس الفتاة الحالمة أثناء نومها، وكنت أتوقع أن يصبح سقوط الصورة نذير خطر من أي نوع. "هليوبوليس" تجربة لا تملك سوي أن تحبها لطزاجتها وتفردها ، ومن ثم تتعاطف مع أبطالها بنفس القدر الذي تتأسي فيه ، وتتحسر، علي ما آلت إليه الأوضاع ليس في مصر الجديدة وحدها بل في وطن ينسحب منه الجمال ليحل مكانه القبح !