منذ دخول العالم العربي عصر الانحطاط والتحلل وفقدان الإرادة والاستقالة من المشاركة في صنع الحضارة الإنسانية القائمة علي العقلانية والاستنارة والعلم والبحث العلمي.. فقدت المؤتمرات العربية "ظلها" وجديتها وأصبحت مجرد ثرثرة عقيمة أو اجترار لأمجاد غابرة أو مناسبة إضافية لتعميق الخلافات العربية - العربية. ولذلك.. فقدت الحماس لحضور مثل هذه المؤتمرات التي لا يستفيد منها سوي أصحاب الفنادق وشركات الطيران. فالبيانات الختامية سابقة التجهيز ومعدة سلفا، وسواء كانت مكتوبة بأسلوب بليغ أو أسلوب ركيك فانها سرعان ما تتحول إلي قصاصات من الورق لا تستحق أكثر من قيمة الحبر الذي كتبت به، لأنه لا يتم تنفيذ حرف واحد مما ورد فيها. حتي أصبحت لدينا أكوام هائلة من البيانات والقرارات والاتفاقيات العربية تنافس الاهرامات المصرية في ضخامتها التي أصبحت مجرد حبر علي ورق. لكن رغم كل هذه التحفظات المستندة إلي تاريخ طويل من العجز المذهل للنخب الحاكمة العربية في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.. حرصت علي حضور أحد هذه المؤتمرات مؤخرا، بل اعترف بأني ضبطت نفسي "متحمسا" و"متلهفا" للمشاركة. "المؤتمر - الاستثناء" الذي أقصد هو المؤتمر العربي للاستثمار والتنمية في جنوب السودان، الذي عقد يوم 23 فبراير الماضي في مدينة جوبا عاصمة الجنوب تحت رعاية الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسي. وقام بتنظيم هذا المؤتمر جامعة الدول العربية بالتعاون مع حكومة الخرطوم وحكومة جنوب السودان. وإلي جانب الوجود الرسمي في المؤتمر من خلال عمرو موسي وكبار القيادات السودانية، كانت هناك مشاركة واسعة من رجال الأعمال ومؤسسات القطاع الخاص العربي واتحادات وغرف التجارة والصناعة والزراعة في البلاد العربية، والاتحادات والشركات العاملة في مختلف قطاعات العمل الاقتصادي العربي المشترك والمؤسسات الاستثمارية والمالية والمصرفية والمؤسسات العربية المشتركة، بما فيها الصناديق وشركات الاستثمار العامة والخاصة، بالاضافة إلي مجموعة من المؤسسات الدولية العامة والخاصة. وليست هذه هي المرة الأولي التي يعقد فيها هذا المؤتمر من أجل الغرض المعلن والمشار إليه، بل انه عقد ثلاث مرات من قبل لكن كان الاجتماع يتم في مقر الجامعة العربية دائما وبالتالي فان هذه هي المرة الأولي التي ينعقد فيها المؤتمر - بهذه القائمة الموسعة من المشاركين - في جنوب السودان ذاته. ولم يتم اتخاذ قرار عقد مؤتمر جوبا بمبادرة شخصية من هذا الطرف أو ذاك بل ان مؤتمر جوبا قد عقد في إطار تنفيذ القرار رقم 421 الذي اتخذته القمة العربية في دمشق بتاريخ 30 مارس 2008 وهو القرار الذي دعا الدول والصناديق ومؤسسات التمويل والاستثمار العربية إلي مواصلة الجهود والمشاركة الفعالة لعقد المؤتمر التنسيقي الرابع للتنمية والاستثمار في جنوب السودان. وأظن أن انعقاد المؤتمر في قلب جنوب السودان كان قرارا صائبا وحكيما، ليس فقط لأنه الجهة المعنية وصاحبة المصلحة الأولي وإنما أيضا لأنه "مسرح الجريمة" اذا جاز التعبير. فمهما قرأنا عن المصائب والمصاعب وأوجه الحرمان التي يعاني منها جنوب السودان فإننا لا يمكن أن نحس بمدي هذه الكوارث وحجمها الحقيقي إلا اذا رأينا الواقع نفسه. فهذه منطقة ليست منكوبة فقط وإنما هي قد أجبرت علي النكوص إلي العصور الوسطي. تلك جريمة متكاملة الأركان اقترفها الاستعمار البريطاني ووضع بذرتها، لكن كل الحكومات الوطنية التي تعاقبت علي حكم السودان منذ استقلاله عام 1956 لم تكن أقل قسوة واستعبادا واسترقاقا لأبناء الجنوب من المستعمرين الأجانب بل ربما كان القهر "الوطني" أكثر بشاعة وفظاظة وغلظة ووحشية في بعض الأحيان. والنتيجة أن الجنوب ظل رازحاً في نير التخلف والفقر المدقع حتي يومنا هذا.. رغم انه ذاخر بالثروات الهائلة! وقد عبر عن ذلك سيلفا كير ميارديت النائب الأول للرئيس السوداني ورئيس حكومة جنوب السودان بقوله في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر جوبا إنه عندما تولت الحكومة الشعبية حكم الجنوب في اطار اتفاقية السلام لم يكن هناك كيلو متر واحد من الطرق المرصوفة يربط مناطق الجنوب بعضها البعض أو يربط الجنوب بشمال السودان أو الدول المجاورة، وألقي سيلفاكير بعض الأضواء علي الكنوز المدفونة والمجهولة بجنوب السودان، حيث 50% من مساحة الجنوب صالحة لزراعة المحاصيل الغذائية وقصب السكر والفواكة الاستوائية والشاي والبن والمحاصيل الزيتية، كما يوجد بالجنوب 12 مليون رأس من الأغنام ومصادر هائلة للثروة السمكية، ومعادن كثيرة في مقدمتها اليورانيوم والذهب والماس، والأهم من هذا كله 70% "سبعون في المائة" من انتاج البترول السوداني. كل هذه الثروات موجودة في منطقة ظلت محرومة تاريخيا من حق شعبها في المشاركة في السلطة والثروة، وظلت مكبلة بألف قيد وقيد لتسهيل نهب مواردها وإبقاء أهلها في العصور الوسطي. وتستطيع ان تشم رائحة العصور الوسطي منذ لحظة هبوط طائرتك في مطار جوبا "إذا جازت تسميته بالمطار أصلاً"، لانه مجرد مكان بدائي تهبط فيه الطائرات من الحجم الصغير والمتوسط اثناء النهار فقط، لأنه يفتقر إلي الإنارة وأجهزة الملاحة والتوجيه الليلية، وبالتالي فإنك لا تستطيع الهبوط أو الطيران إلا في وضح النهار! والشطر الأكبر من المدينة - اذا جاز اطلاق اسم المدينة عليها - عبارة عن بيوت من الصفيح أو القش لا يتوافر فيها الحد الأدني من متطلبات الحياة الآدمية، والفقر والبؤس في كل مكان والبنية التحتية شبه منعدمة "رغم مجهودات تم بذلها خلال فترة الحكم الذاتي منذ توقيع اتفاقية نيفاشا للسلام". هذه التراجيديا الإنسانية كفيلة بأن تحرك الحجر، لكنها لم تحرك العرب إلا أخيراً، والواضح أن سبب هذا التحرك المتأخر هو محاولة يائسة لمنع انفصال جنوب السودان أو بعبارة أخري محاولة لجعل الوحدة خيارا جاذبا - كما تقول أدبيات الجامعة العربية - أما إذا وقع الفأس في الرأس وفضل أهل الجنوب الانفصال في الاستفتاء الوشيك - وهو الأمر المرجح - فإن المؤتمر يبقي الأمل الاخير في الإبقاء علي "شعرة معاوية" بين العرب وبين جنوب السودان أو السودان الجديد كما يحبون أن يسموه. وفي هذا السياق نلمح سمة تكاد تكون منعدمة في معظم المؤتمرات والملتقيات العربية، نعني التحضير الجيد. والتحضير الجيد هنا جاء من الطرفين: من الجامعة العربية التي بذلت مجهودا منهجيا ومدروسا لاجتذاب جميع الأطراف العربية المعنية والتنسيق فيما بينها والاعداد الممتاز لجدول الأعمال وتهيئة الأجواء للخروج بأفضل ما هو ممكن من نتائج ملموسة، وليس مجرد وعود أو بيانات وشعارات. وفي هذا الصدد نشيد بفريق العمل المعاون للأمين العام لجامعة الدول العربية وفي مقدمتهم السفير سمير حسني الذي أصبح مرجعا مهما في الشأن السوداني البالغ التعقيد. ومن جانب جنوب السودان الذي جاء المسئولون في حكومته بأوراق مدروسة وأفكار واضحة وقدموا للمشاركين في المؤتمر صورة دقيقة للفرص والتحديات علي حد سواء في هذا الأقليم الذي يستعد لكي يصبح "دولة". وسنعود إلي أوراق وزراء حكومة جنوب السودان في مقال لاحق نظراً لأهميتها لكن يجدر اليوم الإشارة إلي الخطوط العريضة لمداخلة امانويل بول كوانين الأمين العام لهيئة الاستثمار في جنوب السودان: ? تأسست الهيئة بقرار رئاسي في 19 ديسمبر 2006، أي بعد أقل من عامين علي توقيع اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005. ? في مارس 2009 أجاز المجلس التشريعي لجنوب السودان قانون تشجيع الاستثمار الذي صار نافذا بتوقيع رئيس حكومة الجنوب عليه. ? هذا القانون يوفر ضمانات للاستثمار أهمها: عدم التمييز بين المستثمرين المحليين والأجانب، وضمانات ضد المصادرة، وحماية حقوق الملكية الفكرية، وإمكانية الوصول للمعلومة العامة، وإعادة توطين رأس المال والأرباح وأرباح الأسهم بإعطاء المستثمر الحرية الكاملة في إعادة توطين رأس ماله لعملات قابلة للتحويل أو أي صيغة أخري، كما يكون لأي مستثمر متضرر حق التقاضي في محكمة جنوب السودان المختصة بفض النزاعات حول الأعمال. وحددت حكومة جنوب السودان قطاعات معينة كأولوية استثمارية يتمتع المستثمر فيها بفوائد وحوافز متنوعة يمكن الحديث عنها في مقال لاحق. وقد كان وزير الشئون القانونية بحكومة جنوب السودان واضحا حيث أكد ان "وعود" المستثمرين العرب ليست كافية، والأهم هو "التنفيذ"، وقال لهم بصراحة: "أنتم تجعلون البحر طحينة الآن لكنكم ستركبون طائرتكم وترحلون بينما نحن هنا جالسون نضع أيدينا علي الخدود"، وانتقد بعض الاقتراحات التي قدمها المستثمرون العرب والمصريون.. مثل إنشاء مدرسة لتعليم قيادة السيارات قائلا إن الأولوية بالنسبة لنا هي الأمن الغذائي ?وهذا يعني تشجيع المستثمرين علي الاستثمار في قطاع الزراعة والتصنيع الزراعي والمنتجات الغذائية. ولأن تطوير الزراعة يحتاج بالضرورة إلي تطوير وشق الطرق فإن النقل والبنية الأساسية يمثلان أولوية مطلقة. وعلي العموم فإن الجانب السوداني الجنوبي قدم عرضا تفصيليا بالفرص الاستثمارية المتاحة في كل القطاعات، وهي كثيرة ومغرية جدا، وهي تحت أيدينا ومتاحة للمستثمرين المصريين المهتمين بطبيعة الحال، وقد نشرنا بعضا منها وسنواصل النشر إذا كان هناك اهتمام ممن يعنيهم الأمر. ??? وأولا وأخيرا.. نبدأ وننتهي بالرجل الذي حرك كل هذه المياه الراكدة.. إنه عمرو موسي. فهو ليس العقل المفكر: المدبر فقط، وإنما هو الدينامو المحرك أيضا. وقد كنت أتصور أنه سيحضر الجلسة الافتتاحية ويمضي إلي حال سبيله وهذا أمر منطقي ولا غضاضة فيه لكني فوجئت به حاضرا ومشاركا ومتفاعلا من أول لحظة إلي آخر لحظة دون كلل أو ملل. وأنا شخصيا أحسده علي هذا الحضور الطاغي والحيوية المتدفقة واعترف بأني لم استطع مجاراته فانسحبت بعض الوقت لالتقاط الأنفاس والراحة. والمهم أن وجوده طوال الوقت لم يكن وجودا شكليا أو بروتوكوليا بل كان وجودا فاعلا ومؤثرا وقياديا بكل ما في الكلمة من معني وأحد الأمثلة التي توضح ذلك أن آخر نقطة في جدول أعمال هذا المؤتمر المرهق كانت هي إعلان البيان الختامي الذي صفق له أغلب الحاضرين وتأهبوا للمغادرة. لكن عمرو موسي طلب نص البيان وتحفظ علي صياغته وأولويات بنيته منطلقا من التأكيد علي الضمانات التي منحتها حكومة جنوب السودان للاستثمار. وممسكا ب "أمهات المسائل" - مثل ضرورة فتح فروع لبنوك عربية في الجنوب مع الاشارة لمبادرة بنك مصر، ومشروعات الأمن الغذائي، والنقل والطرق، والطاقة والصحة مع ضرورة أن يشير البيان إلي مشروعات يجري تنفيذها بالفعل أي أن الموضوع ليس مجرد كلام، مؤكدا علي القول إننا قد اتينا لنكون شركاء في تنمية جنوب السودان وليس من أجل إقامة مشروع صغير أو متوسط مثل إنشاء مجزر أو مدرسة تعليم قيادة سيارات، ثم الاتفاق علي آلية لمتابعة هذا كله. هذا الذي فعله ويفعله عمرو موسي منهج مفقود وإرادة غائبة في التعامل مع همومنا العربية. وبفضل هذا المنهج العلمي وتلك الارادة السياسية استطاعت جامعة عمرو موسي العربية رغم قسوة الظروف وترهل النخب الحاكمة العربية وتحلل النظام الإقليمي العربي - استطاعت الجامعة أن تفتح من قبل طاقة نور وأمل في غرب السودان، حيث كانت استراتيجيتها هي الوحيدة القابلة للحياة في التعامل مع معضلة دارفور، ثم في جنوب السودان اليوم حيث يمكن ان يكون مؤتمر جوبا الورقة العربية الوحيدة الصالحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن سبق السيف العزل وأصبح انفصال الجنوب قاب قوسين أو أدني.