في مختلف الأحوال، نحن نعيش في محيط من المعلومات التي تتكاثر فيه حولنا.. وفي الوقت نفسه معلومات أكثر من اللازم، ومعلومات مفيدة أقل من اللازم.. فالعديد يرغبون في إقناعنا بادعاءاتهم عن الحقيقة أو علي الأقل مشاركتنا معهم فيها.. وهذه الادعاءات قد يكون مصدرها غير مؤكد.. ولكن في ظل ظروف مناسبة ندمجها في منظومة معتقداتنا.. ونتصرف بناء عليها ونستند عليها من خلال الذاكرة الجماعية.. وبالنظر لهذه الادعاءات تصبح المسألة هي: من، وماذا، وأين ومتي نثق.. ولأن ردود الفعل علي هذه التأكيدات حول أي قضية في المجتمع توجه أعمالنا، فإن الحكم هنا ضروري، حتي لو كان ضمنيا.. لماذا هذه المقدمة.. أهميتها تكمن في المجتمع عبر صفوته العلمية والثقافية والسياسية عندما يفقد بوصلة التواصل مع المجتمع واحتياجاته هو مجتمع يعاني فصاما وتنتابه هلاوس التغيير الذي لا يمتلك مقوماته.. الذاكرة الجماعية للمجتمع تتشكل من إسهامات فروع العلم المختلفة ومكونات وعناصر الثقافة التي تسود.. وعندما تكون مثل تلك المعارف والثقافات مختلة أو غير منضبطة أو بعيدة عن تلبية احتياجات المجتمع.. فإن الذاكرة الجماعية للمجتمع تصاب بالشلل والخلل والتخلف وسيادة منطق الشائعات كما يقال في علم الاجتماع.. فالشائعة تعبر عن اعتقاد له أهمية موضوعية وتنتشر بدون مستويات قياسية مضمونة من الدليل، أو معايير معروفة للمعتقدات.. وتنتشر الشائعات بشكل دقيق لأنها تدعم معتقدات لها معني اجتماعي.. ويمكن أن تصاغ الشائعة كسؤال أو كرغبة في الحصول علي تأكيد أو نفي الآخرين لها.. وانطلاقا من أنه لكي يعيش مجتمع ما ويزدهر يجب أن تربط الثقة الكبيرة ما بين أفراده ومؤسساته.. إن جزءا من قيمة الثقة ينبع من الحاجة لدراسة كل الظواهر بشكل علمي منضبط.. هناك نظرة قديمة كلاسيكية بل ومعطلة لدي عامة الناس مفادها أن العلماء والعلم يبعدان أميالا عن حاجات الناس الحياتية ولا يلبيان احتياجاتهم المعنوية.. فعلي سبيل المثال.. الكثير منا يسمع عن المؤتمرات العلمية، خاصة الطبية منها.. والكثير منا أيضا لا يفهم عنوان هذه المؤتمرات وبالضرورة محتوياتها أو محاورها.. فقط عندما يكون بالمصادفة في إحدي الفنادق الكبري وهو يحتسي كوبا من القهوة أو زجاجة جعة باردة.. يري وفودا وأناسا تتسم وجوههم بالوقار ويرتدون أحدث الموديلات من الملابس وبعض الشارات التي تدل علي أنهم أعضاء أو ضيوف مؤتمر ما.. وعندما تسأل يجيبك أحد العاملين بهذا الفندق الضخم أن هناك مؤتمرا علميا أو طبيا.. حتي هذه اللحظة.. لا تملك شيئا سوي أن تقول له شكرا.. ولا يستدعي الأمر أكثر من ذلك.. أو ربما تجد إعلانا في إحدي الصحف عن افتتاح السيد الوزير الفلاني في الغالب "مسئول عن وزارة علمية" أو الأستاذ الدكتور العلاني رئيس أو عميد إحدي الكليات العلمية لمؤتمر علمي أو طبي عنوانه "....." أعتقد أن الكثير منا تعرض أو يتعرض ومر عليه الكثير من هذا.. ولكن يبدو أن الكثير منا خسر ومازال يخسر متابعة بعض هذه المؤتمرات.. خاصة تلك التي تتفاعل مع التغيرات الطارئة والحراكات الاجتماعية التي تحدث في المجتمع.. وأن الأبحاث العلمية لم تعد مجرد أبحاث في غرف مغلقة أو أن الباحثين والعلماء يتحدثون لأنفسهم فقط ولبعضهم البعض.. وسأعطي للقارئ العزيز مثالا علي هذه الخسارة، والتفاعل الإيجابي مع التحديات الاجتماعية.. "إنه المؤتمر السنوي الدولي للطب النفسي لكلية الطب جامعة القاهرة".. والذي حمل عنوان "التحديات التي تواجه الطب النفسي في مصر".. وهو مثال حي لإقامة التصالح بين المعلومات اللازمة التي يحتاجها المجتمع للانضباط وبلا خلل.. ومثال حي علي تفعيل بوصلة التواصل مع المجتمع واحتياجاته حتي لا يعاني فصاما أو يأسا أو إقصاء.. شرفت بحضور إحدي الجلسات العلمية لهذا المؤتمر والتي فرضت علي كتابة هذا المقال لهذا الأسبوع بعيدا عن مقالاتي السياسية المعتادة في هذه الصفحة أسبوعيا من حيث أهميتها وما أثارته داخلي من أن هناك أناسا وعلماء وباحثين لم يفقدوا بوصلة التواصل مع المجتمع.. كان عنوان الجلسة "عندما يصبح الطب النفسي مريضا".. أعتقد أن العنوان بحد ذاته يمس جزءا حيويا من مجتمعنا الذي يعاني العديد من المشكلات والأمراض.. وتفاعل الجلسة العلمية مع آراء الحاضرين وكانت تجربة علمية فريدة استطاع منظمو الجلسة أن يطرحوا الأسئلة ويتم من الضيوف اختيار الإجابات طبقا لآرائهم ومعتقداتهم.. فخرجت الجلسة العلمية لآفاق أكثر رحابة تفاعلت مع رؤي المجتمع الذي جسده بعض قطاعات منه داخل قاعة الجلسة.. فجر هذا المؤتمر أهمية التواصل مع المجتمع وأن العلم لابد أن يكون مرادفا لاحتياجات وتساؤلات المجتمع.. نخبة كبيرة من الأطباء والعلماء رأيتهم واستمعت إليهم في هذا المؤتمر الذي شرفت بحضور إحدي جلساته والاستماع لشباب ورجال علماء جذبوا أنظار الحاضرين وهم يتحدثون عن فرع علمهم ولكن بالتماس مع احتياجات ومشكلات المجتمع.. وكلهم علماء أجلاء.. تحية لهم.. يحيي الرخاوي.. أحمد عكاشة.. يسري عبدالمحسن.. محمود سامي عبدالجواد.. ناهد خيري.. سعيد عبدالعظيم.. مصطفي شاهين.. محسن عسكر.. طارقة عكاشة.. نها صبري.. ناصر لوزا.. رفعت محفوظ.. وغيرهم.. كان مؤتمر التحديات التي تواجه الطب النفسي في مصر عنوانا للتواصل بين العلماء وبين المجتمع.. بين العلم عندما يشيع الثقة والتفاعل مع حركة المجتمع وبين العلماء والباحثين عندما يدركون أهمية أبحاثهم لهذا المجتمع واحتياجاته وتصحيح المفاهيم والشائعات السائدة.. فض هذا المؤتمر الاشتباك بين الطب النفسي والمرضي النفسيين، وناقش الطرق الحديثة للعلاج النفسي، وتطورها.. واستعرض أمثلة حيوية عبر جلساته المختلفة.. حتي أن إحدي جلساته خصصت للطب النفسي والإعلام وتحدث فيها الفنان حسين فهمي وهو ما يؤكد أن بوصلة التفاعل بين العلم والمجتمع كانت هي محور هذا المؤتمر الرصين.. تحية لهؤلاء العلماء والباحثين والمنظمين.. آملين أن يكون مؤتمر العام القادم استكمالا لهذا التفاعل والتواصل مع احتياجات المجتمع.