كلما مرت السنون وتوالت الأحداث في العقود الأربعة الماضية تظهر بجلاء مؤشرات التراجع المجتمعي في مصر المحروسة ومن أجمل الأعمال الفنية التي تناولت دور المرأة بل وكفاءتها فيلم "مراتي مدير عام" الذي كتبه المبدع الراحل سعد الدين وهبة وأخرجه أحد اهم المخرجين الكبار وأكثرهم إبداعا وموهبة هو الراحل فطين عبدالوهاب وقام بالبطولة الفنانة الشاملة شادية والفنان الراحل صلاح ذو الفقار بالاشتراك مع كوكبة من كبار الفنانين من بينهم الفنان عادل إمام وعالج الفيلم العلاقة بين زوجين بعدما تولت الزوجة منصب المدير العام في نفس المصلحة التي يعمل بها الزوج مرؤوسا لديها وانتهت الأحداث الشديدة الجدية بكوميديا راقية بانتصار "التنوير" وقبول الزوج للواقع الذي قررته كفاءة الزوجة وقدرتها علي الإدارة والعطاء كان الفيلم في ستينيات القرن الماضي ومن ثم كانت صدمتي وصدمة الكثيرين في قرار الجمعية العمومية لمجلس الدولة برفض تعيين المرأة قاضية بالمجلس، والغريب أن نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا منذ حوالي سبع سنوات هي الرائعة تهاني الجبالي التي يفخر بها كل "مصري" بل وكل إنسان يقدر الكفاءة والتفاني والاخلاص في العمل وطوال هذه السنوات كانت تهاني الجبالي لؤلؤة بديعة في تاج العدالة المصرية وتبع ذلك بعد سنوات تعيين أكثر من ثلاثين امرأة في مناصب ومهام قضائية فما الذي حدث للمجتمع المصري حتي يعد التغيير إلي أرفع وأقدس السلطات وهي السلطة القضائية الساهرة علي تطبيق القانون ومواد الدستور التي تؤكد علي المواطنة وعدم التمييز بين المصريين بسبب الجنس أو اللون أو العقيدة الدينية؟ ورغم انني اتفق مع من قالوا إن "توصية" عمومية مجلس الدولة بعدم تعيين المرأة تسئ إلي سمعة مصر بالخارج فانني اعتقد بقوة انها تسئ كذلك لسمعة مصر في الداخل إذ كيف تتقدم امرأة بشكواها إلي مجلس الدولة والأغلبية الساحقة من اعضاء جمعيته العمومية يرفضون تعيين المرأة في المجلس ليس علي أسس مهنية أو معايير موضوعية بل فقط لكونها أنثي ويزيد البعض تبريرًا للتوصية التي تلقتها نساء مصر وقطعًا الكثير من رجالها بانها "يوم أسود في تاريخ العدالة في مصر" بأن الجمعية بحثت في مدي ملاءمة تعيين المرأة في مجلس الدولة في الظروف الحالية للدفعة المعروفة حاليا!! أي ان الدفعة كلها رفضت - بربطة المعلم - دون دراسة أو تحقيق في ظروف أي من المتقدمات بما أن نائب رئيس مجلس الدولة أشار إلي ظروف الحمل والرضاعة ومرافقة الزوج إلخ!! وهو ما يترك انطباعا بأن كل هذه الوظائف الطبيعية مثل الحمل والولادة والرضاعة تمثل عائقا في وجه تقلد المرأة منصبا قضائيا ربما عقابا لها؟! وكذلك سددت هذه التوصية ضربة موجعة للمادة 40 من الدستور المصري التي تؤكد مساواة المصريين - نساء ورجالا - في الحقوق والواجبات ومن ثم لا يحق لأحد ايا كان منصبه أن يخالف الدستور وماذا ننتظر من الأجيال التي تقع الآن تحت سطوة الفكر السلفي الوافد والذي يقضم يوما بعد يوم قطعة من حقوق المرأة ومكانتها وايضا من ادميتها وانسانيتها ولا أفهم هذه الازدواجية في مجتمع اليوم فالمرأة هي منذ المهد أول معلم وأول قاض وأول وزير مالية واقتصاد للأجيال المصرية المتعاقبة بحنانها وعبقريتها في تدبير شئون الأسرة بمواردها المحدودة، والمرأة التي تتمتع بكامل حقوقها تكون بالتأكيد أقدر علي تنشئة الابناء تنشئة سليمة وهي التي انجبت لمصر عظماءها واعلامها كما انها هي أصل المثل المعروف بأن مصر ولادة فلا يتصور أن تبقي مصر ولادة بدون الأم التي هي - امرأة - فهكذا ارادت حكمة الخالق أن توهب في رحمها الحياة وأن تكون هي نبع الحنان وهي تضم الأبناء ذكورا وإناثا إلي صدرها ترضعهم عصارة الجسد والروح غذاء وحنانا فهل غابت كل هذه المعاني أثناء التصويت علي "التوصية؟" وهل يمكن أن تتحمل نساء مصر هذا الظلم في النظرة إليهن بعدما صدقن أن الدستور يسبغ عليهن حمايته ويمنع أي انتقاض من إنسانيتهن؟ والواقع أن هذه التوصية إذا مرت لا قدر الله قد تفتح الباب علي مصراعيه أمام دعاة "وأد" المرأة واقصائها عن الحياة والتذرع بنفس الحجج لأن جميع النساء يحملن ويلدن ويرضعن حكمة ربنا. وقد نري من "يوصي" بمنع المرأة من العمل في هذا المجال أو ذاك وبذلك نعود إلي عصر الظلام ونهدر حقبات نضال أسطورية خاضتها المرأة المصرية لانتزاع حقها ولعدم حرمان المجتمع من نصف مكونه وفيه بالتأكيد عبقريات ومواهب ستعود عليه بالخير والمشاركة في جهود نهضته تخيلت لو أن المستشارة الألمانية انجيلا ميركل وهي امرأة - كما هو معروف - تزوجت وحملت وانجبت وارضعت قد قرأت مثلا عن هذه "التوصية" تري ماذا عساها تقول أو تفكر؟ قطعا ستحمد الله انها في بلد اعترف بجدارتها وأسلمها ديموقراطيا قيادة شئونه وعلي انها ليست في مصر اليوم لكننا سنقول لها.. لا تتعجلي يا سيدتي ففي مصر رجال ونساء قادرون علي عبور هذا النفق!