هما حكايتان تختلفان في الشخوص،وفي الزمان والمكان، وفيما تقوم عليه كل منهما من وقائع وأحداث، لكن بينهما خيطاً رابطاً هو الذي أعني،وهو الموضوع الأساسي لمقالنا هذا،والحكايتان هما مما حدث لصاحبي الذي أصدقه فور أن ينتهي من حديث،وأعزه أشد ما يكون الإعزاز، حتي إنه لا يكاد يفارقني،وكأننا روح واحدة حلت في جسدين ! أما أولي الحكايتين، فإن صاحبنا هذا، فيما فهمت منه، لا يدري والله كم من الوقت مر عليه وهو يستمع إلي قريبته اللصيقة 0 كان يبدو أمامها وكأنه قد هادئ الشكل، بارد الأعصاب، أو قل، كأنه تمثال من صخر، لا تهزه انفعالات، ولا تؤرقه هموم، لكن الله وحده يعلم،كم كانت أعصابه تتمزق، وقلبه ينفطر،ودموعه تسيل أنهارا من داخل،وهو عندما أخذ يتأمل محاولا أن يفهم لماذا بدا هكذا أمام قريبته، لم يجد من تفسير إلا أن المسألة تتعلق بحكمة ربانية فطر الله الإنسان عليها، فيجد نفسه من فرط ما وقع عليه قد تبلد حسه وانعقد لسانه وتجمدت مشاعره، حتي لا يشهد شخصه انهيارا، كأنه البناء قد دفع به زلزال شديد إلي التداعي، فالانهيار 0 قالت السيدة، وهي تبكي بكاء شديدا، وتلهث وكأنها تجري أو تحمل حملا ثقيلا، تتوقف من حين إلي آخر، تلاحق دموعها المصاحبة لحديثها، إنها ذات ليلة قريبة،وبعد منتصف الليل، فوجئت بدقات باب عنيفة، فهرعت مذعورة لفتح الباب، فإذا بضابط شرطة ومعه جنديان، لا ينتظرون شيئا، فيقتحمون المسكن الذي تقيم فيه وحدها بعد انفصالها عن زوجها، ومعها فقط ابن لها شاب وحيد، كان قد ذهب إلي سرير نومه يغط في سبات عميق 0 فإذا بالضابط يأمر السيدة أن تخلع ما قد وضعته علي وجهها من نقاب علي الفور ويسأل عن الابن الشاب، ولا ينتظر أن تسأل السيدة عن الأمر، فيواصل الاقتحام حتي يصل إلي غرفة نوم الشاب،ويترك للجنديين المصاحبين مهمة ضربه في كل اتجاه، وفي كل المواضع : من ركل وصفع ولَكْمِِ، يصحب كل ذلك _ من الضابط العظيم - سيل من السباب والشتم حتي لكأنه قد أتي علي كل ما يمكن وما لا يمكن تصوره من شتائم وسباب أتي به كله، فراح يعيد تكرار معظمه،وهو سباب عادة _ للمفارقة - ما يركز علي " الأم "، وكأن القائم به إذ يعرف كم هي عزيزة الأم، وكم هي غالية أثيرة حتي لتعد مثال الحب الصافي الصادق،ونموذج الإخلاص العميق ونور الحياة لكل إنسان، فلابد أن يحطمه،ويدوسه بالنعال أمام الإبن 00أي ابن 0 وينتاب السيدة مس من الصراخ والعويل والبكاء الهستيري سائلة : ماذا جري ؟ ولم كل هذا ؟ وتوسلات وصلت إلي حد الانحناء لتقبيل أحذية قائد الغزوة العسكرية العظيمة أن يرحمها ويرحم ابنها الوحيد الذي تبقي بعد أن توفي أخوه الأصغر منذ سنوات قليلة فجأة وهو في الحمام 0 وكان قائد الغزوة يقابل كل دموع السيدة بالاستخفاف والاستهزاء، بل ويقذف بالسيدة عرض الحائط أو في أي اتجاه حتي ولو سقطت فوق منضدة أو فوق كرسي أو علي الأرض 00هكذا تعلم كيف تكون الشرطة في خدمة الشعب00 ويبدو أن القائد العظيم، قد أدرك أن السيدة التي أمامه " أغلب من الغلب "،وأن لا حول لها ولا قوة،وليس لها " عزيز " ينقذها مما هي فيه أو ذو شأن يخشاه، فبدأ قلبه يرق ويحنو، ويبدأ في التصريح بمظاهر رقه ورحمته، فيقول وبصوت عال لابد أن الجيران قد استيقظوا وسمعوه،وهم متسمرون في أماكنهم وبيوتهم ،حيث علمتهم الخبرة أن الجبابرة إذا تحركوا وفعلوا، فلا راد لما يقولون، ولا راد لما يفعلون 0 من مظاهر الرقة والحنو تصريحه أنه كان يمكن أن يأمر عسكره بنزع ثياب السيدة كلية، وأن يتيح الفرصة للابن أن يري هذا الموضع أو ذاك من جسد أمه، مما لم يعد يراه منذ أن تجاوز مرحلة الرضاعة، بل ويصرح بأنه أيضا كان يمكن أن يأمر جنده بفعل الفاحشة مع الأم 00لكنه غفور رحيم، فيكتفي بالشتم والسب والضرب والركل 0 ويفيض القائد العظيم في بيان عطفه وحنانه، بأنه كان يمكن أن " يلفق " قضية ما للأم والشاب، أبسطها أن يضع قطعة حشيش، مما لابد أن يوقعهما في السجن، لكنه رؤوف رحيم يقتصر علي ما يفعل،وبالتالي فقد دعا كلا من الأم والشاب أن يُكثرا الحمد والشكر لله الكبير أن رحمهما عبده الجبار فاقتصر علي السب والشتم والضرب والإهانة ! وإذا كانت الأم والشاب قد ظلا بعض الوقت لا يعرفان الحكاية،ولم كل هذا، إلا أن قائد الغزوة الليلية العظيم صرح بأنه اكتشف أن صلة حب بين ابنته وبين الشاب،وأنهما يتبادلان المكالمات الهاتفية، معلنا بفخر مصحوب بشيء من الأسي : كيف يحدث له، وهو ممن يراقبون مكالمات الناس الهاتفية أن يصل به الأمر إلي أن يجد شابا يتعلق بابنته ويهاتفها ظانا أنه لن يقع تحت طائلة المراقبة ! إلي من تشكو الأم ؟ وإذا كان ابنها قد أخطأ بأن " بادل " _ ولم يفرض - " حبا " لفتاة، أفليس هناك تدرج في التعامل مع مثل هذه القضية يبدأ بالتنبيه والتحذير،ثم ما بعد ذلك خطوات، خاصة أن الأمر لم يتطور إلي ما بعد التهاتف ؟ إنه الحل الأمني الذي نراه تجاه كل مشكلاتنا، لا بحث عن الأسباب والعلل،وإنما العقاب والتأديب، فكأننا لسنا في وطن يحمي ولكن في سجن كبير !! أما الحكاية الثانية، فقد حدثت لصاحبنا نفسه 000 كان عائدا بالقطار من مهمة ثقافية تتعلق بالتجديد والإصلاح الفكري في مكتبة الإسكندرية، حيث غادر القطار محطة سيدي جابر في الرابعة والنصف مساء، شاعرا بقدر كبير من الرضا النفسي، فها هو الجمع الكبير من مفكري الأمة ومثقفيها يأخذون علي عاتقهم تلك المهمة الحضارية التاريخية بتجديد فكر الأمة وإصلاحه، علي اعتبار أن ذلك هو نقطة البداية لتطوير الحياة وتجديد ثقافة الأمة وإصلاح ما اعوج في أفرادها وجماعاتها 0 وعندما تجاوز القطار محطة بنها، عائدا إلي القاهرة، إذا به يتوقف في الطريق، فحدّث صاحبنا نفسه بأن الأمر عادي، فكثيرا ما كانت تحدث مثل هذه التهدئة للقطارات لإصلاح هنا وتجديد هناك، فليس الفكر وحده هو الذي يحتاج إلي تجديد وإصلاح ! ثم إذا بالدقائق تمر بعضها وراء بعضها الآخر ليتجاوز الأمر ساعة من الزمان، هي في مثل هذه المواقف بطيئة ثقيلة وكأنها ساعات، وطوال الوقت لا أحد يقول للناس : ماذا حدث ؟ قد يكون بينهم مفكرون وأساتذة وعلماء وأناس عاديون، لكن الجميع يستوي في أن يجد مثل هذا " التجهيل " لتتناثر الإشاعات واحتمالات التفسير، إلي أن جاء البشير الصادق، بأن القطار لن يواصل رحلته، حيث إن سائقي القطارات جميعا مضربون عن العمل ! بدأ كل راكب " يتصرف " بأن يهاتف صديقا أو أخا أو ابنا أو أبا، حيث كان الوقت قد تجاوز الثامنة ليلا، ولم يقف القطار عند نقطة يمكن منها البحث عن وسيلة، فهو في عرض الطريق، ويخيم عليه ظلام دامس، حتي فرغت العربة التي بها صاحبنا من الركاب،وبقي وحده مع عدد يصل إلي أصابع اليد ممن كانوا سيواصلون إلي الصعيد 0 فكّر صاحبنا فيمن يمكن أن يستغيث به : ابنه ؟ لكنه يسكن بعيدا وسوف يستغرق ساعتين علي الأقل . زوجته ؟ إنها مريضة ! ابنته ؟ إنها كذلك معتلة ! بل وكيف له أن ينزل من عربة القطار وهو نفسه معتل العظام، ولم يبرأ بعد من جراحة كبيرة في عموده الفقري، والقطار ليس علي رصيف ؟! ألم يعلم وزير النقل بالأمر، فيفزعه وضع مئات الناس ليلا معتقلون داخل القطارات ؟ ألم يعلم وزير الداخلية، الذي يعلم متي وأين تدب النملة في مصر، فيرسل المدرعات والسيارات المصفحة، لو حدّث مصري نفسه،وهو في سرير نومه بشيء من دواعي إصلاح النظام القائم، فيهرع ولو ببعض عسكره لينقذ هؤلاء المعتقلين في القطارات ؟ ألم يعلم محافظ القليوبية،وكل محافظ، توقف قطار في محافظته، فيرسل من ينقذ هؤلاء الناس المساكين ؟ ساعتها، تبخر كل ما كان قد سمعه صاحبنا من بحوث ودراسات عن التجديد والإصلاح،ووضحت العلة له _ عمليا _ بعد أن كان يدركها نظريا : ولعلك عزيزي القارئ قد سمعت في الفترة الأخيرة كلمة حق أريد بها باطل، يقولون فيها إن " مصلحة مصر هي خط أحمر لا يمكن السماح بتجاوزه "، فليت هذه هي الحقيقة، لسعدنا بها، ذلك أن مصلحة مصر نفسها، كثيرا ما تجاوزها النظام القائم،والشواهد أكثر من أن تعد وتحصي، ولكن المصلحة المقصودة هنا علي المستوي العملي هي مصلحة النظام ! فإن شئنا عزيزي القارئ،ويا مواطن بلدي مصر أن نكون أقوياء، فلن نكون كذلك إلا إذا أصبح المواطن في مصر هو البطل الرئيسي 00هذا هو موضع التجديد والتغيير والإصلاح الحقيقي،وهو الخط الأحمر الحقيقي !