إن تراكم الأسئلة والاستفهامات مؤشر علي التعقيدات المتداخلة محليا وإقليميا ودوليا في موضوع حساس داخل بلد ما عرفه العالم إلا حقل تجارب، أبوابه مشرّعة وحدوده مفتوحة لأي نوع من الاختبارات، سواء كانت عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو أمنية. في غمرة النشوة بالنصر التي عمّت كلّ لبنان، كان في مكان ما حديث هادئ مفاده أن "صفقة التبادل" تشكّل الحدّ الفاصل بين نهاية مرحلة، وبداية مرحلة جديدة من الصعب ضبط عناوينها وإيقاعاتها علي الصعيد الاسرائيلي، وان كان الظاهر للعيان التركيز علي جولة جديدة من الاغتيالات، وأيضا من التعبئة الإعلامية والدبلوماسية ضد "حزب الله" في العالم ، وخصوصا في أوروبا والأمريكيتين، إلاّ أن الأمين العام نصر الله قدّم من جهته عرضا لا يمكن للجنة الوزارية المكلّفة بإعداد مسودة البيان الوزاري تجاهله، ولا حكومة الوحدة الوطنية تجاوزه، ولا الدولة بمؤسساتها تغافله، وجاءت دعوته الي استراتيجية وطنية دفاعية صادقة وصريحة، ولكن كيف؟ ووفق أي إطار؟ واستنادا الي أية معايير؟ أولا: هناك اتفاق الهدنة المبرم بين لبنان وإسرائيل برعاية الامم المتحد منذ تاريخ 32 مارس 1949 والذي له تفاصيله الدقيقة والمتشعّبة، وهذا يعني أن الخيارات المتاحة أمام حكومة الوحدة الوطنية ضيقة جدّا، فإما تقدم علي إلغاء هذا الاتفاق ومن طرف واحد، وتتبني استراتيجية دفاعية تنطوي علي بنود ومضامين مغايرة تماما لما يتضمنه الاتفاق، وهذا من شأنه أن يترك مضاعفات خطيرة، أو أن تأتي هذه الاستراتيجية في حدود ما يسمح به الاتفاق، أو يصار الي اعتماد الخيار الثالث؟! ثانيا: ان الوضع في الجنوب محكوم بسلسلة من القرارات الدولية، بدءا بالقرارين 425 و426 بتاريخ 19/3/1978 وصولا الي القرار 1701 اغسطس 2006 الذي يدعو الي "الاحترام الشديد من كل الاطراف لسيادة لبنان واسرائيل وسلامتهما الاقليمية، والاحترام الكامل للخط الازرق بين الطرفين، ورسم الحدود الدولية للبنان، لا سيما في المناطق حيث هناك نزاع أو التباس بشأن الحدود، بما في ذلك منطقة مزارع شبعا، واتخاذ ترتيبات أمنية للحيلوةلة دون تجدد الأعمال الحربية، بما في ذلك إنشاء منطقة خالية من أي عناصر مسلحة وعتاد وأسلحة إلا من الجيش اللبناني والقوي الامنية اللبنانية والقوات الدولية المفوّضة من الاممالمتحدة، وذلك بين الخط الازرق ونهر الليطاني، والتطبيق الكامل لبنود اتفاق الطائف وأحكامه ذات الصلة، والقرارين 9551 (2004) و1680 (2006)، بما في ذلك نزع سلاح كلّ الميليشيات في لبنان انسجاما مع قرار مجلس الوزراء اللبناني في 27 يوليو 2006 بحيث لا يكون هناك سلاح أو سلطة في لبنان باستثناء الدولة اللبنانية"... وبالتالي لا يمكن وضع استراتيجية إلا في ضوء ما جاء في هذه البنود، وغيرها من التزامات، سواء أكانت مادية أم معنوية، وتطال المؤسسات أو الجهات الرسمية، بقدر ما تطال هيئات المجتمع المدني. ثالثا: هناك اتفاق الطائف، وبعده اتفاق الدوحة، وضرورة الاعتماد علي ما ورد فيهما عند البحث الجدي في أي مشروع استراتيجية وطنية دفاعية. رابعا: هناك التزامات لبنان حيال العديد من الاتفاقات، بدءا بمبادئ مؤتمر مدريد للسلام، وصولا الي مبادرة السلام العربية التي أقرّتها قمة بيروت عام ،2002 الي سائر القرارات الصادرة عن الجامعة العربية أو الاممالمتحدة. الي جانب هذه العناصر مجتمعة، ثمة سؤال يتردد في كواليس دبلوماسية: أين السلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها من هذه الاستراتيجية؟ وهل يجوز معالجة سلاح "حزب الله" والمقاومة قبل إيجاد حلّ للسلاح الفلسطيني؟ إن تراكم الأسئلة والاستفهامات مؤشر علي التعقيدات المتداخلة محليا وإقليميا ودوليا في موضوع حساس داخل بلد ما عرفه العالم إلا حقل تجارب، أبوابه مشرّعة وحدوده مفتوحة لأي نوع من الاختبارات، سواء كانت عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو أمنية... ومع ذلك تبقي ثمة مقاربات جدية لقيام شبكة أمان استنادا الي مجموعة من العوامل والتجارب أيضا، وانطلاقا من الحوار المترفّع الصريح المسئول، الذي يضع مصلحة لبنان واللبنانيين فوق كلّ اعتبار؟! ويؤكد بعض المنشغلين بهذا الملف من زاويته القانونية التقنية أن طاولة الحوار التي يستعدّ القصر الجمهوري لاستضافتها تبقي المكان الصالح لوضع كل المخاوف والهواجس والتحديات علي بساط البحث، لإطلاق ورشة عمل وطنية إنقاذية بعيدا عن الحسابات الشخصية أو الفئوية أو المذهبية أو الطائفية، بحيث يكون إنقاذ لبنان هو الهدف. كما ان الحوار المرتجي، ترتّب آلياته وأولوياته منذ الآن، برأي هؤلاء، لأن الغاية توفير مساحة من التوافق لمعالجة التحديات وما أكثرها من دون أن يشعر أي طرف بوجود غالب ومغلوب. وإذ يلتقي "الحزب" اليوم مع ما كانت تطالب به الموالاة بالأمس بشأن الاستراتيجية الدفاعية، فإن تلك التي ينشدها إنما هي استراتيجية وطنية يريدها علي مساحة لبنان وطموحاته، ومحورها سؤال بسيط، لا يزال الجواب عليه مبهما أو معقّدا: أي لبنان يريد اللبنانيون؟ وأي استراتيجية لهذا اللبنان؟!