وعلى الرغم من أن "بدى شوف" ليس فيلما عاديا مثل بقية الأفلام ، فهو فيلم بلا سيناريو ، ولا يحكى قصة لها بداية ووسط ونهاية ، بل فيلم مثل "شهادة" على الدمار الذى لحق لبنان كله أثناء الغزو الإسرائيلى عام 2006 ويحكى عن " رحلة " لتفقد ذلك الدمار ، واختفاء قرى بأكملها من الوجود ، ودفن بيوتات وعمارات _ بعد استخلاص الصفيح والحديد منها- ودفنها تحت البحر، وتوديعها إلى الأبد ، بكل ما تحمله من تاريخ وذاكرة كما أن الفيلم الذى أعجبنا كثيرا ، وبدا لنا أشبه ما يكون ب " قصيدة " سينمائية ، يثير عدة إشكاليات سينمائية مهمة، مثل علاقة السينما بالواقع والتاريخ والذاكرة الجماعية ، كما انه ك"مغامرة فنية " يلبى " حاجة " صارت ماسة فى سينما العالم الثالث، ويطرح تساؤلا: على أى شكل يجب أن تكون عليه تلك الأفلام التى نصنع فى بلادنا التى تنتمى الى دول العالم الثالث النامى الآن، فى مصر والجزائر والعراق ولبنان ،وبخاصة بعد أن صار النموذج السينمائى الأمريكى التجارى المهيمن على أسواق السينما فى بلادنا والعالم ، لايلبى احتياجاتنا السينمائية الحقيقية كما أنه يعرقل حركة السينما العربية وسينما العالم الثالث باتجاه سينما تترافق مع الحدث وتصاحبه، وبخاصة فى زمن الحرب - وكل بلدان العالم الثالث الفقير فى حالة حرب، من القاهرة فى مصر، الى سان باولو فى البرازيل مرورا ببيروت فى لبنان - لكى تصبح انعكاسا صادقا له ، والتعبير الأمثل ، وليس الأوحد له، من خلال التجريب، و الجمع فى العمل السينمائى بين الواقع والخيال، بين السينما التسجيلية والسينما الروائية.. يحكى الفيلم، الذى يتساءل ماذا تستطيع السينما أن تفعل فى زمن القصف والحرب والكوارث والبطالة ، والوقوف على حافة الهاوية، وأى سينما عندئذ نصنع، عن رحلة للنجمة الفرنسية كاترين دينوف فى لبنان بصحبة الممثل اللبنانى ربيع مروة داخل سيارة يقودها ربيع، وتنطلق بهما اولا فى شوارع بيروتالمدينة لتفقد الدمار الذى لحق بها اثناء الغزو الاسرائيلى و كل الحروب التى عاشها لبنان وتركت اثرا لايمحى فى جسد المدينة، ويظهر ذلك فى البيوتات المهدمة والثقوب التى احدثتها طلقات البنادق والرشاشات والمدافع ، ويقدم ربيع نفسه الى كاترين ويتعارفان، فيذكر لها أن أسمه يعنى فصل الربيع ، وأنه يكره هذا الأسم، حيث يبدو أن لبنان محكوم عليه بألا يتمتع بأى ربيع أو اى استقرار على الاطلاق منذ زمن ، كما يحكى لها ربيع عن أهله فى الجنوب الذى تعود ان يقضى فيه فترة الصيف، وعن جدته التى كانت تسكن معهم فى بيروت ، فلما وقع الغزو الاسرائيلى رجعت لبيتها فى قريتها الجنوبية ، ويعد ربيع كاترين بزيارة لبيت جدته معها، كما يحكى لها عن اعجابه الكبير بتمثيلها وبخاصة فى الفيلم البديعBELLE DE JOUR الذى عرض تجارياً تحت اسم"حسناء النهار"، ويردد عليها مقطعا بالعربية من الفيلم يحفظه ربيع عن ظهر قلب، وتنسجم كاترين بسماع موسيقى اللغة العربية فى المقطع، لكن يظهر منذ أول لقطة فى الفيلم قلق النجمة الفرنسية حين تخترق السيارة شوارع بيروت، ويظهر هذا القلق من خلال اهتمامها بربط حزام الأمان فى السيارة ، ويقول لها ربيع أن عدم ربط الحزام فى ما مضى كان يعاقب عليه القانون بغرامة ، أما بعد الحرب، وحالة التسيب العام والفوضى فان أحدا لا يهتم أو لم يعد يهتم بربط الحزام كما تفعل، لكنها تصر على شد الحزام فى كل مرة تدلف فيها إلى السيارة ، والتى تشاهد من خلال نافذتها أهل بيروت وهم يجلسون خارج البيوت والمحلات والمقاهى ويعيشون حياتهم بشكل طبيعى ، وتدريجيا تستريح كاترين لكلام ربيع وهى تنصت الى ما يقوله باهتمام، ومرة بعد اخرى يغادر ربيع السيارة لكى يبعد الفضوليين الذين تعرفوا على النجمة الفرنسية الشهيرة ، وبخاصة حين تخرج من السيارة وتتفرج على مشاهد الدمار فى المدينة والبيوت المهدمة ثم تخرج السيارة من بيروت وتنطلق باتجاه الجنوب ، وهنا نتفرج على المنظر الطبيعى الساحر فى لبنان ، وحين تصل إلى قرية ربيع ، ويخرج ليبحث عن بيت جدته، اذا به يكتشف أن القرية قد دمرت تماما ، ولم يعد بإمكانه ان يتعرف على بيت الجدة بعد ان سقطت البيوتات المهدمة على الشوارع وأخفت معالمها وغطت على شوارعها، وكأن القرية لم تكن أبدا من قبل، ثم تنطلق بهما السيارة باتجاه الحدود اللبنانية الإسرائيلية ، وهنا تحلق طائرات اسرائيلية فى سماء لبنان عند الحدود اثناء تصوير مشاهد الرحلة، فترتعد كاترين خوفا لكن ربيع يطمئنها ، ويقول لها ان تلك غارات وهمية تقوم بها الطائرات الاسرائيلية لارهاب الجنوب وأهله، وبث الرعب فى قلوبهم، وقد صارت بمرور الوقت شيئا عاديا ورروتينيا ،وحين يغفل ربيع قليلا وينحرف بالسيارة عن الطريق المخصص للسيارات يهرع طاقم الفيلم للحاق به، حيث ان كل الطرق الجانبية ملغمة، وقد تنفجر بهما السيارة فى أى لحظة، وبعدها ينتظر طاقم الفيلم حتى يتم وضع حامل لتصوير بعض المشاهد وانتظار تصاريح التصوير، وينتهز جنود القوات الدولية على الحدود حضور النجمة الفرنسية الكبيرة فيلتقطون بعض الصور معها، ثم يعود ربيع بكاترين من جديد الى بيروت واثناء رحلة العودة يحكى لها فى مشهد مؤثر عن تلك الرافعات التى ترابض فى موقع على حافة الماء ، وتأتى اليه الشاحنات من المدينة وهى تحمل ماتبقى من بيوتها المهدمة وبعد ان تستخلص منه حديدها المسلح، تقوم بدفن البيوت المهدمة فى البحر، وكأن مصير بيروتالمدينة أن تدفن تحت الماء، لكى تصبح فى نهاية المطاف مجرد ذكرى ترقد فى القاع..ويصل الفيلم هنا الى ذروته الفنية، ويذكرنا هذا المشهد والمناخ السيكولوجى العام والحالة التى يخلقها الفيلم بفيلم " هيروشيما حبى " للمخرج الفرنسى الكبير آلان رينيه وسيناريو الكاتبة الروائية الفرنسية مارجريت دوراس، وتشمخ كاترين دينوف هنا بحضورها وشجاعتها وشهادتها، ويحقق الثنائى اللبنانى جوانا وخليل "إضافة"مهمة على طريق البحث والتفكير والتجريب، لإبداع سينما عربية مغايرة، تجمع بين الروائى والتسجيلى لتصبح نموذجا لسينما مختلفة، لمشاهد مختلف، لكن لم تكتمل او تتشكل ملامحه بعد . نموذج يقدم نفسه ك " محاولة " سينمائية فنية جادة،لخلق" بدائل"عكس تيار سينما الروايات والقصص والحكايات العربية التافهة التى شبعنا منها فى المسلسلات و أفلام الثرثرات اللامجدية والتى يجرى تفصيلها على مقاس النجوم، و قد انقضى عصرها ربما والى الأبد، وعلينا فى كل مرة ،كما يقول المخرج السورى الكبير عمر أميرالاى، أن نبدأ من الصفر.. تحية إلى جوانا وخليل على فيلمهما الذكي، الذى لا يحكى أو يفسر، بل يعرض فقط . يعرض للدمار، وعبثية الوجود الإنسانى تحت الحصار والقصف ورعب الحرب، واختفاء مدينة بأكملها تحت مياه البحر، ويتركنا لنتأمل ونفكر، لكى نشارك أيضا بذلك فى صنع الفيلم. وتحية الى كاترين دينوف الفنانة والنجمة الفرنسية الكبيرة ،لتعاطفها وتضامنها مع لبنان وأهله، وتشجيعها ووقوفها الى جانب تلك المحاولة السينمائية الجديدة للثنائى جوانا حاجى وخليل جريج على سكة سينما لبنانية حديثة.