حركة المحافظين الأخيرة جاءت في الوقت المناسب بعد أن تسرب اليأس إلي قلوب مواطني بعض المحافظات وأصابهم الملل ظاهرة لابد أن نتوقف عندها ونتأملها بالتحليل في محاولة للتعرف علي أسبابها، فقد خرج مواطنو محافظتي البحر الأحمر والدقهلية وغيرهم من مواطني المحافظات التي تم تغيير محافظيها.. خرجوا في مواكب يعبرون فيها عن فرحتهم الغامرة بهذا التغيير، بل إن كثيرين قد نحروا الذبائح ورقصوا في الشوارع بمصاحبة فرق المزمار البلدي، واستخدموا كميات كبيرة من الأزيار والقلل كسروها في وداع محافظيهم السابقين، وهو ما نشرت صوره العديد من الصحف.. وهنا لابد لنا من وقفة نتأمل فيها هذا السلوك التلقائي عن ابتهاج المواطنين بذهاب محافظين لم يتواصلوا معهم ولم يقدموا إنجازات تذكر طوال فترة توليهم المسئولية، بل إن بعضهم تعمد في صلف وقسوة الإضرار بمصالح المستثمرين والمواطنين علي حد سواء، وتفرغوا لتحقيق مصالحهم الخاصة وسط جو من الشللية والمحسوبية والكيل بمكيالين في التعامل مع المواطنين.. ولعلني أذكر أنني عندما كنت في زيارة لإحدي المحافظات الساحلية الشهيرة، سألت سائق سيارة أجرة عن رأيه في المحافظ، فأقسم لي أنه لا يعرف اسمه رغم أنه يعمل منذ عدة سنوات في عاصمة هذه المحافظة، فضحكت متسائلا: وكيف ذلك والمحافظ قد زرع عشرات من اللافتات التي تحمل صورته في معظم مدن المحافظة، وكثيرا ما نشرت صورته في الصحف عندما يقوم بعض المنافقين بتهنئة سيادته في مناسبة العيد القومي للمحافظة، ومن وقت لآخر في أخبار وتصريحات يدلي بها بمناسبة وبغير مناسبة؟! أجاب الرجل بتلقائية (تصدق بالله أنا بمر كل يوم علي عشرات اليفط اللي بتتكلم عليها، وبشوف الجرايد مبهتمش بيها لأن كثرة الفساد والظلم بتسبب مرارة تخلي نفس الواحد تتسد عن أي حاجة)! هذا ما قاله الرجل بعفوية لكنه لم ينس أن يذكر أسماء محافظين سابقين كانت لهم بصمات جعلت المواطنين تبكي في وداعهم ويتحسرون علي ذهاب أيامهم التي كانت تشهد الإنجازات والحيوية.. إن حركة المحافظين الأخيرة جاءت في الوقت المناسب بعد أن تسرب اليأس إلي قلوب مواطني بعض المحافظات وأصابهم الملل من كثرة الشكوي وانتظار التغيير، وبعد أن توحش هؤلاء المحافظون وأصابهم الغرور، وتفرغوا لمجاملة أصحاب الحظوة علي حساب جموع المواطنين، وأيضا علي حساب المصلحة العامة.. وهنا يثار سؤال يتكرر في كل مرة تحدث فيها حركة محافظين.. وهو : ما هي المعايير التي يتم علي أساسها اختيار المحافظين؟.. ويأتي الجواب دائما أنها (كوتة) حيث ترشح بعض الهيئات السيادية شخصيات وصلت إلي سن المعاش فيكون منصب المحافظ وكأنه مكافأة نهاية الخدمة، وكثيرا ما يدفع الوطن والمواطن ثمنا غاليا في مقابل هذه المكافأة، وإن كانت بعض هذه الترشيحات تفرز قيادات جادة وفاعلة ومحترمة، لكن البعض الآخر يأتي بقيادات ربما تكون قد نجحت في مناصبها القديمة لكنها تفتقد مهارة التعامل مع مشاكل المحليات، وفن إدارة شئون المحافظة، ومتابعة خطط التنمية فيها، ومراعاة طبيعة التركيبة السكانية، والاستفادة من الموارد الطبيعية التي تضمها المحافظة، وكثيرا ما يحدث أن يستعين المحافظ بمجموعة من مساعديه المقربين إليه في عمله السابق ليصبحوا طاقم مكتبه في موقعه الجديد، وبالطبع فإن هؤلاء هم أهل الثقة وليسوا أهل الخبرة، فيتحولون إلي مراكز قوي، ويعزلون المحافظ عن الجماهير تحت دعوي الحفاظ علي وقته، ومراكز القوي هذه شاهدناها في بعض المحافظات حيث أصبح مدير مكتب المحافظ هو الحاكم بأمره، والمتصرف في شئون المواطنين حيث يتعامل باسم المحافظ وبسلطاته أحيانا، وكم سمعنا عن انحرافات كثيرة كان مكتب المحافظ هو مصدرها، وفي كل محافظة نجد مجموعة من المنتفعين الذين يسارعون منذ اليوم الأول لتولي المحافظ الجديد موقعة بالتقرب إليه وإغراقه بالهدايا والوصايا ومحاولة "شرنقته" مبكرا مدعين أنهم أهل الخبرة والنفوذ، وهؤلاء عادة ما يكونون من أصحاب المشروعات في المحافظة، كما يسارع فريق آخر من المنافقين في الأجهزة التنفيذية والمجالس المحلية رافعين شعار (مات الملك.. يحيا الملك).. وقبل أن أختتم هذا المقال أطرح فكرة أرجو أن يجد المسئولون فيها ما يستحق التنفيذ.. والفكرة تتلخص في أن عددا من المحافظين القدامي لديهم خبرات متراكمة في العمل في المحليات، وبعضهم قد حقق إنجازات ملموسة ومؤثرة أثناء توليه المسئولية.. هؤلاء معروفون ولا تخطئهم العين ولا الذاكرة.. فلماذا لا تشكل لجنة استشارية منهم ينقلون من خلالها خبراتهم للمحافظين الجدد وبذلك نضمن أن يتلقي المحافظ الجديد في بداية خطواته الأولي خبرات عملية تمثل حائط صد ضد المنافقين والمتطفلين ، وتضع ومضة ضوء أمام المحافظ الجديد .. إنها مجرد فكرة ، اما الحديث عن حركة المحافظين الأخيرة فيحتاج إلي مزيد من الكلمات..