مثل هذا التهافت من قبل بعض الأوساط الغربية لتكييل إساءاتها للإسلام والمسلمين أو تباري بعض الحكومات والدوائر الرسمية في توفير الدعم والحماية وإغداق المكافآت والعطاءات لكل من تسول له نفسه الأمارة بالسوء تشويه صورة الإسلام ،إنما ينم عن وقوع تلك الجهات أسري لظاهرة الإسلاموفوبيا ما كادت العلاقة القلقة بين العالمين الإسلامي والغربي تركن قليلا إلي الهدوء في أعقاب بركان الرسوم المسيئة لنبي الإسلام (ص) والتي أقدمت صحيفة يولاندس بوستين الدانماركية علي نشرها في العام 2005 علي نحو أثار حفيظة المسلمين حول العالم ودفع بعدد آخر من الصحف الأوروبية للتضامن مع الصحيفة الدانماركية عبر إعادة نشر هذه الرسوم الممقوتة في استفزاز واضح لمشاعر المسلمين وتحد سافر للأصوات الرسمية والشعبية المعتدلة في بلاد الغرب،والتي سبق وأن تعهدت لمنظمة المؤتمر الإسلامي إبان أزمة العام 2005 بالحيلولة دون تكرار تلك الأفعال المشينة ،حتي أعاد النائب البرلماني الهولندي اليميني المعارض والمتطرف "جيرت فيلدرز" التنقيب في الجراح التي لم تكن قد اندملت بعد،من خلال إنتاجه فيلما مسيئا للإسلام وللمسلمين ضارباعرض الحائط بكافة الدعوات الرسمية والشعبية من قبل الحكومة الهولندية فضلا عن أصوات مسلمة وغير مسلمة داخل هولندا وخارجها ،مطالبة إياه بالتراجع عن مخططه لبث فيلمه الذي يحمل عنوان "فتنة" ، فقد بثه ذلك المتطرف الموتور مساء يوم الخميس الماضي عبر شبكة الإنترنت في نسختين باللغتين الإنجليزية والهولندية علي موقع حزب "من أجل الحرية" الذي يتزعمه، والذي لا يحظي بشعبية علي الساحة الهولندية ،وذلك قبل يوم واحد من نظر القضاء الهولندي في الدعوي القضائية العاجلة التي تقدمت بها منظمة إسلامية تطالب فيها القضاء الهولندي بندب خبير مستقل لمشاهدة الفيلم قبل عرضه والبت في مدي قانونية ذلك العرض بناءً علي ما يتضمنه. وقد استهل فيلم "فتنة" مشاهده واختتمها بالرسم الكاريكاتيري المسيء للرسول صلي الله عليه وسلم الذي نشرته صحف دنماركية عام 2005، ويصور ما يتخيل أنه الرسول مرتديا عمامة علي شكل قنبلة.كذلك،يعرض الفيلم لعدد من آيات القرآن الكريم ويربطها ببعض العمليات الإرهابية التي اجتاحت العالم مؤخرا كأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بالولايات المتحدة وتفجيرات مدريد ولندن، كما عرض الفيلم لقطات لعملية استشهادية قامت بها سيدة فلسطينية في إسرائيل، فضلا عن مقتطفات لخطب ألقاها أئمة مسلمون يتهمون في الغرب بالتشدد، مثل أبو حمزة المصري المعتقل حاليا في بريطانيا.ويزعم الفيلم الذي استغرق عرضه 15 دقيقة أن القرآن الكريم يحض علي قتل اليهود دون أسباب، وانتقد ما وصفه بمحاولة "أسلمة هولندا وأوروبا"، واعتبر الفيلم أن القرآن الكريم هو عبارة عن "رخصة للقتل".وعلاوة علي ذلك،يدافع الفيلم عن الزنا والشذوذ الجنسي معتبرا أن تحريم الإسلام لهذه الأمور أمر يتنافي مع الحريات الفردية علي حد زعمه.واختتم الفيلم بعرض مشهد لنزع إحدي صفحات القرآن ودعا المسلمين إلي نزع ما وصفه بالآيات التي "تحض علي الكراهية"،ودعا الغرب إلي العمل من أجل هزيمة ما وصفها ب"الفاشية الإسلامية" مثلما ألحق الهزيمة من قبل بالنازية الألمانية، علي حد تعبيره. ومما استرعي الاهتمام خلال تلك الأزمة ،أن حالة رائعة من الروية وضبط النفس قد خيمت علي موقف المسلمين في هولندا وخارجها قبل وأثناء وبعد بث الفيلم علي الإنترنت ،حيث آثرت المنظمات الإسلامية في هولندا اللجوء إلي الوسائل القانونية والثقافية في التعاطي مع هذا الفعل الشائن،كما سارعوا بمناشدة نظرائهم في بلاد العالم الإسلامي التمسك بهذا النهج تلافيا للمثالب التي أحاطت بردات الفعل الإسلامية علي أزمة الرسوم الدانماركية قبل ثلاثة أعوام . وقد كان من شأن ذلك التصرف الإسلامي الحكيم أن يستتبع أصداء إيجابية فيما يخص تعاطي الهولنديين حكومة وشعبا مع إصرار فيلدرز علي بث فيلمه المسيء ،فقد إفتقر عرض الفيلم لأي ترحيب،حيث لم تتبن الحكومة الهولندية ذات الموقف الذي تبنته نظيرتها الدانماركية في العام 2005 إبان أزمة الرسوم ،والتي بدت فيه سلبية إلي أبعد الحدود حينما لم تحرك ساكنا و رفضت مساءلة مروجي تلك الرسوم كما أبت أن تقدم إعتذارا للمسلمين علي تلك الرسوم متذرعة بإحترامها لحرية الرأي والتعبير في الدنمارك والتي أقرها دستور البلاد ،وهو الأمر الذي فاقم سخط المسلمين ،الذين اعتقد معظمهم أن الحكومة الدانماركية كانت متواطئة مع أصحاب الرسوم المسيئة . فمن جانبها،هرعت الحكومة الهولندية إلي التعبير عن رفضها اإستيائها مما جري بعد أن حاولت منعه بشتي الطرق ،كما أكدت أن هذا الفيلم لا يعبر بأي حال عن الموقف الهولندي الرسمي من الإسلام والمسلمين والقرآن الكريم .وتأكيدا لذلك، كتب وزير الخارجية الهولندي مقالة لجريدة "الشرق الأوسط" خاطب فيها الرأي العام العربي والإسلامي أكد فيها علي رفض الحكومة الهولندية لهذا الفيلم ،الذي إعتبر أنه لا يعبر إلا عن وجهة نظر منتجه فقط ،وأشار الوزير إلي اعتزاز المجتمع الهولندي بزهاء مليون مسلم يعيشون في هذا البلد ويمارسون طقوسهم الدينية في أكثر من 450 مسجدا منتشرا في ربوعه ،فضلا عن إسهام مسلمين هولنديين في تقدم هولندا ونهضتها من خلال عطائهم في مختلف أجهزة الدولة الهولندية . وعلي الصعيد الشعبي، عمدت جمعيات أهلية هولندية إلي إدانة فعلة فيلدرز المشينة، وتم تدشين موقع إليكتروني لمناهضتها يحمل إسم "هولندا تحب المسلمين" وقد شن الموقع حملة لجمع التوقيعات علي عريضة لرفض عرض الفيلم،فاق عدد الموقعين عليها 5000 شخص، أكثرهم من غير المسلمين، خلال شهر واحد، بينما فاق عدد الموقعين عبر الإنترنت بموقع "فيلدرز ليس هولندا" وعلي عريضة تحمل نفس الإسم وتوضح رفض الهولنديين لتوجهات فيلدرز، 10 آلاف شخص.وبدورها ،رفضت محطات تلفزيونية هولندية إذاعة الفيلم.وعلي الصعيد الدولي ،عبرت الأممالمتحدة عن إستيائها من جنوح الفيلم للإساءة إلي الإسلام، وفي قرار تاريخي هو الأول من نوعه منذ إنشاء المنظمة الدولية اعتمد مجلس حقوق الإنسان بالمنظمة تعديلا تقدمت به مصر وباكستان نيابة عن المجموعتين الإفريقية والإسلامية لتأكيد أن حرية التعبير لا تتضمن الإساءة للأديان والتحريض عليها أو إشاعة الآراء التي تحرض علي الكراهية والتمييز ومن جانبها،أوقفت شركة إنترنت أمريكية الموقع الذي كان سيبث عليه فيلدرز فيلمه، وذلك قبل أن يلجأ لبثه علي موقع الحزب اليميني الذي يمثله في البرلمان . غير أن أجواء البرود والإستياء اللذين استقبل بهما الرأي العام العالمي فيلم فيلدرز الساقط ،لم تكن لتمنع ظهور موجة تجريح وإساءة غربية جديدة للإسلام والمسلمين ،فبالتزامن مع أزمة فيلم فيلدرز ،وتحديدا في ألمانيا، ،التي يعيش بها نحو 3.2 مليون مسلم من إجمالي تعداد السكان البالغ حوالي 82.4 مليون نسمة، ورغم دعوات من منظمات إسلامية ألمانية بعدم الإقدام علي أية خطوة من شأنها أن تسيء للإسلام والمسلمين ،عمد مسرح مدينة بوتسدام الألمانية يوم الأحد الماضي إلي عرض مسرحية كانت هي الأولي ،التي تقتبس روايتها من كتاب "آيات شيطانية" للكاتب البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي،و الذي نشره أواخر ثمانينيات القرن الماضي وهاجم خلاله القرآن الكريم، علي نحو أثار غضبا عارما بين المسلمين في أرجاء العالم حتي إن الزعيم الأعلي الإيراني الراحل آية الله روح الله الخميني قد أصدر في حينها فتوي عام 1989 تحل دم المؤلف البريطاني،الذي اضطر بدوره إلي العيش مختبئا تسع سنوات،إلي أن منحته الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا وسام فارس في يونيو من عام 2007 ، ما أثار ردود فعل غاضبة في العالم الإسلامي. وأحسب أن مثل هذا التهافت من قبل بعض الأوساط الغربية لتكييل إساءاتها للإسلام والمسلمين أو تباري بعض الحكومات والدوائر الرسمية في توفير الدعم والحماية وإغداق المكافآت والعطاءات لكل من تسول له نفسه الأمارة بالسوء تشويه صورة الإسلام ،إنما ينم عن وقوع تلك الجهات أسري لظاهرة الإسلاموفوبيا أو الخوف المرضي من الإسلام والهلع من إنتشاره المتسارع في بلاد الغرب برغم مساعي تشويهه والإساءة إلي نبيه وأتباعه،الأمر الذي دفعهم لصب هجماتهم عليهم ظانين أنهم بذلك سيضعون حدا للمد الإسلامي في العالم الغربي .ولعل رفض مندوبي بعض الدول الأوربية لدي المجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع لمنظمة الأممالمتحدة التصويت لصالح مشروع القرار الدولي الذي تقدمت به كل من مصر وباكستان لمنع إزدراء الأديان أو الإساءة إليها ،أو التحريض علي ذلك ،بذريعة حرية التعبير،خير برهان علي سلامة هذا الطرح .ومن ثم ،تظل إمكانية وقف تلك الحرب الدعائية الشرسة من قبل الغرب ضد الإسلام والمسلمين مرهونة،ليس بتفعيل القرارات والقوانين الدولية التي تحض علي إحترام الأديان وعدم الإساءة إليها فحسب ،وإنما بتحرر مرضي الإسلاموفوبيا في الغرب من إسار أفكارهم المرضية الزائفة وصورهم الذهنية النمطية المشوهة عن الإسلام والمسلمين، والتي كان ولا يزال المغرضون والمخربون وأعداء الإنسانية يتبارون في إختلاقها ونسج خيوطها عبر حملة عدوانية منظمة تدشنت قبل قرون ولم تزل قائمة حتي يومنا هذا ،وربما تستمر إلي يوم الدين.