كان من أبرز ما سعي الدكتور سرور- إبان توزره للتعليم في أواخر الثمانينيات - أن يتقرب به إلي القيادة السياسية هو تنظيم ما سمي بالمؤتمر القومي لتطوير التعليم، ولم يكن في حقيقة الأمر إلا مهرجاناً دشن صاحبنا به نفسه ليكون رجل سلطة من المقربين فتزيد أسهمه، وهو ما نجح فيه بالفعل،حتي لو كان ذلك بعمليات زخرفة واقع بوهم، وتزيينه بما هو مضاد للصحة التربوية لهذه الأمة وعقلها، وكان من سوء حظي حقا أن تورطت- أعترف بهذا طمعا في عفو الله- في بعض مظاهر ما كان سبيلا إلي تخريب التعليم، وعذري الحقيقي أنني، تنبهت في الحال ولم أقف صامتا، بل ملأت الكثير من الصحف وقتها نقدا وفضحا لما كان يحدث، كذلك أعترف بأنني غير ماهر في " اللعب السياسي "، ولعبتي الأساسية هي العمل العلمي، لكنني كنت- والقياس مع الفارق طبعا- شبيها بمن عمل بالذرة فإذا بشياطين السياسة يستثمرون ما كشف عنه البحث العلمي للتدمير والتخريب. كان ذلك في عام 1987 ... طلب مني الدكتور سرور ثقة منه كما قال يومها- في قدراتي المتواضعة- أن أضع تصورا استراتيجيا لكيفية تطوير التعليم في مصر! كان ذلك أمرا عجيبا حقا، فِأمر مثل هذا يحتاج إلي عمل " فريق " وليس جهد فرد .. هكذا قلت له، فرد بأنه منذ شهور وهناك مؤتمرات مصغرة متعددة عقدت بمديريات التربية والتعليم في مصر، وسوف يضعها جميعها بين يدي، وبالتالي فالعمل إذن سوف يكون عمل فريق بطريق غير مباشر، فضلا عن أن المطلوب مني هو ما يخص التعليم قبل الجامعي، أما التعليم الجامعي فسوف يقوم به شخص آخر. كان الطلب الآخر المدهش هو أنه أراد هذا أن يتم خلال أسبوعين! فقلت إن هذا مستحيل، بل هو يحتاج إلي شهور. فرد بأنني ما دمت سأعتمد علي ما تم بالفعل فإن العمل لا يحتاج إلي وقت طويل، خاصة- حسب ما قال- أنه استأذن الرياسة في أن يكون المؤتمر لمناقشة هذه الاستراتيجية في يوليو الذي لم يكن قد تبقي عليه إلا قليل، وأن الرياسة قد وافقت وسوف تشمله برعايتها! بالكاد، مددت الفترة إلي ثلاث أسابيع، هرعت فيها إلي أحد فنادق الاسكندرية دون أن يعلم أحد ومعي أكداس من الكتابات، متفرغا كلية لهذا العمل، ووجدت نفسي مضطرا لأن أُفرغ فكري ودراساتي السابقة لوضع التصور المطلوب، حيث وجدت ما قيل إنه نتاج مؤتمرات محلية كان ذا محتوي هش، معزيا نفسي بأن هذا يمكن أن يعتبر " مسودة " تخضع للمناقشة والتعديل. وتتوالي المفاجآت، حيث بدأ المؤتمر في الانعقاد في الموعد المحدد، فإذا بالاستراتيجية مطبوعة في كتاب وزع علي الناس، وكنت أفهم أن العمل ما دام سيعرض علي مؤتمر ويناقش، فلابد أن يكون في صورة أولية، أما طباعته ( ولم نكن قد وصلنا بعد إلي الكتابة بالكمبيوتر )، فمعني ذلك أن المناقشات سوف تكون صورية، وليقل الناس ما يريدون، ولنكتب نحن ما نريد! ولن أستمر في التفاصيل من حيث جدوي أن تناقش استراتيجية مستقبلية من خلال " مهرجان " يحضره مئات، أم أن الأفضل أن تناقشه جماعة لا يتجاوز أفرادها عشرات، ويغلب علي تكوينها أن يكونوا من أهل الاختصاص والفكر والثقافة، وأن يطرح التصور علي الرأي العام بعد ذلك، وترصد مختلف ردود الأفعال، ثم يعود العمل إلي هذا الجمع المصغر ليصيغ الصياغة النهائية. كانت الصورة التي أُخرجت بها الاستراتيجية في المؤتمرأدخل في باب التهريج منها في باب التطوير الحقيقي، المهم أن تتكاثر حول الوزير كاميرات الصحفيين والقنوات التليفزيونية، وأن يبدو أمام الرئاسة كبطل تطوير، والذي فعل ما لم يفعله الأوائل! ثم انظر بعد ذلك فيما تم بعد مؤتمر " التطوير " المزعوم ... كنا قد أكدنا علي بعض الخطوط الرئيسية اللازمة لتطوير مرحلة التعليم الابتدائي أو الأساسي، فإذا بالوزير بعد أقل من سنة من صدور الاستراتيجية يفعل العكس، فيصدر قانونا بإنقاص مدة التعليم الأساسي (ابتدائي وإعدادي ) سنة كاملة لتصبح مدة المرحلة ثماني سنوات، علي عكس كل الدنيا التي تتجه دائما إلي مد فترة مرحلة الإلزام. كتبنا وتحدثنا وملأنا الدنيا نقدا في حينه واحتجاجا علي منابر مختلفة، لكن نهج النظام الميمون المعروف، وهو : لقد أسمعت إذ ناديت حيا، ولكن لا حياة لمن تنادي .. فكأن البلد " عزبتهم " التي ورثوها، وما نحن- أصحاب المصلحة الحقيقية .. أفراد الأمة- إلا عبيد إحسانهم، علينا أن نأتمر ونطيع، ومن يحتج، فالأجهزة الشيطانية جاهزة بتلفيق التهم والقضايا، وزنازين السجان مفتوحة فاغرة فاها تسأل المزيد، حيث اتسعت معدتها وأصبحت لا تطيق جوعا ولا حتي نصف شبع! وكان الوزير الهمام يرد علي كل من ينقده في هذه الجريمة الكبري بأن " أساتذة التربية " هم الذين نصحوا بذلك، وأنه غير متخصص، لا يسعه إلا أن يسمع للمستشارين المتخصصين! هكذا أهل السلطة في مصر، يتصرفون ويتحدثون علي أساس أننا ما زلنا تحت سن الرشد، إذ من الذي اختار هؤلاء المستشارين؟ دائما الوزير هو الذي ينتقي ويختار، وإن استعان برأي أحد، فهذا بدوره أيضا يكون من المقربين، وتكون النتيجة أن يجئ قوم يعرفون سلفا ماذا يريد الوزير فيفتون بما يريد ويتمني، وهي آفة قومية مع الأسف الشديد، فضعاف النفوس متواجدون في كل أمة، وفي كل زمان، ويكثرون بصفة خاصة في أزمنة الوهن والضياع. بل تستطيع أيضا أن تسأل : إذا كان لديك من أفتي بإنقاص مدة التعليم، فهناك كثيرون آخرون كتبوا ونصحوا وصرخوا وبرهنوا علي خطأ هذا، فلم سمعت لفريق وأعرضت عن فريق؟ إن القرار في النهاية هو قرار المسئول. كان من الحجج التي ساقها الوزير الهمام أن " اليونسكو " قد أيدت هذا ونصحت به! وتصادف أن كنت في زيارة لمكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في البلاد العربية، وكان بعمان، الأردن، حيث كنت في ضيافة مديره الراحل الدكتور محمد إبراهيم كاظم فسألته عن حقيقة الأمر، فأجاب الرجل أن الوزير بعث إليهم يستفتيهم هل يجوز إنقاص سنة من التعليم الابتدائي في ظل شروط كذا وكذا، فردوا بأنه يجوز في ظل هذه الشروط. وسارع الوزير بالترويج لهذه الفتوي، من غير أن يوفر تلك الشروط الأساسية التي " صبّر " بها أهل العلم والاختصاص، من حيث إطالة العام الدراسي، واليوم المدرسي، وإزالة ما بالمقررات من حشو. فشيء من هذا لم يحدث أبدا لأن ظروف مدارسنا لم تكن تسمح به، فلا اليوم المدرسي طال، ولا العام الدراسي زاد، وبالتالي كان من المفترض أن تسقط الفتوي، مادامت شروطها قد سقطت. وكنا قد أثبتنا في الاستراتيجية مبدأ " التجريب قبل التعميم "، لكن سيادة الوزير رمي بهذا المبدأ التربوي المجمع عليه عرض الحائط، حيث لم تكن هناك إلا مدرسة واحدة أنشئت بموجب اتفاقية بين مصر وإحدي دول المنظومة الاشتراكية سابقا في مدينة نصر ضمت مرحلة التعليمين الابتدائي والإعدادي معا لمدة ثماني سنوات، وهي لا يقاس عليها لأن وضعيتها كانت خاصة حيث قامت علي ما سمي في الدول الاشتراكية " التعليم البولتيكنيكي"! وفي كل الاتجاهات التربوية والنفسية، ولدي كل العلماء والمفكرين، عندما تكون هناك خطة تطوير واستراتيجية تحديث، يكون هناك " تدرج " في التطبيق، فنبدأ التطبيق علي الدفعة الجديدة للصف الأول الابتدائي، وفي السنة التالية علي الصف الثاني.. وهكذ. لكن المنطق المعكوس، والعقل غير المتخصص، أبي إلا أن يتم التطبيق علي جميع سنوات مرحلة التعليم الأساسي، وفورا في العام التالي لصدور القانون، مع أن أمرا مثل هذا يحتاج ترتيبات واستعدادات رهيبة .. كلها تم تجاهلها : أليست مصر " عزبتهم " ونحن بالنسبة إليهم عبيد إحسانهم؟ تري، لو وجدنا من يمكن له أن يحسب كم ونوع الخسائر التي تكبدناها نتيجة هذا العبث بعقول ملايين من أبناء الأمة، تم تكوين البنية الأساسية لهم بهذه الخطة الشيطانية عبر عدة سنوات، لوجد أن ما خسرناه يفوق كثيرا ما تصوره الوزير الهمام بأنه يوفر" ملايين " علي خزانة الدولة بإنقاص مدة التعليم، وكيف امتد هذا إلي الجامعات كلها، باضطرارها إلي استقبال ما سمي أيامها بالدفعة المزدوجة، حيث خرجت المدرسة الثانوية دفعتين مرة واحدة، فإذا بالجامعات تتكدس، وإذا بالتعليم فيها يصبح نقشا علي ماء، سنوات وراء سنوات! لو كان هناك "حكم رشيد" لحوكم الدكتور سرور وحوكم من عاونه علي ما فعل .. لكن العكس هو الذي حدث.. لقد ترقي الرجل، وكوفئ علي ما خربه في عقول أبناء الأمة بأن يتربع علي عرش ابرز وأهم مؤسسات الدولة .. مجلس الشعب! هل تستطيع الآن أن تفهم جيدا الدور الذي يقوم به الدكتور سرور في المجلس التشريعي الأول؟ وماذا تقول عندما يرمي بعض أبناء مصر العاملون لمصلحة أمتها في غياهب السجون والمعتقلات، ويكافأ من سعوا في تخريب التعليم وتجريف العقول؟