حسابات الأشياء في مصر مختلفة، وسياق الأحداث في أغلب الأمور غير معلوم أو متوقع.. وهذا ما يفتح الأبواب دائما للتكهنات والاجتهادات وأيضا الإفتاءات. هذه الصورة تجسدت بشكل عملي في أزمة عصام الحضري حارس مرمي الأهلي والمنتخب الوطني. ففجأة.. وبلا مبررات أصبحت قضية "هروب" ثم "عودة" الحضري هي الشغل الشاغل للشارع المصري، وكذلك الأوساط السياسية.. ولست أفهم مبررا منطقيا لهذا الوضع. الحضري لاعب إن هرب أو عاد فهو لاعب حتي لو كان لاعبا كبيرا.. لا أعرف لماذا أخذت قضيته هذا البعد الذي أصبح يجذب الرأي العام بشكل غير مسبوق، ولم يعد أحد مشغولا بأي شيء في مصر إلا بأزمة الحضري. والعجيب في هذه الأزمة هو مشاعر المصريين والرأي العام الانقلابيين فعندما هرب الحضري أخذت القضية أبعادا مزعجة وصلت إلي حد أوحي بأنها قضية أمن قومي، وغطت قضية الحضري علي كل المشكلات المزمنة والطارئة في مصر.. وفجأة تراجع الحديث عن البطالة وارتفاع الأسعار الرهيب، ووصول سعر طن الحديد إلي 6 آلاف جنيه.. وكادر الأطباء وأزمة الصيادلة واعتصامات الفلاحين والعمال.. ووفقا لنظرية المؤامرة فإن قضية الحضري تبدو أنها جاءت في توقيت متميز لصالح الحكومة المصرية التي باتت عاجزة عن حل أية مشكلة، وأصبحت قضية الحضري بمثابة طوق النجاة للحكومة أو مثل الموالد كلها زحمة وصخب وضوضاء وأصوات عالية، لا تحرت فيها من مع من، ولا من ضد من. وأصبح مولد "سيدي أو سيدهم الحضري" مع الاعتذار للسفير الأمريكي في القاهرة باعتبار من أرباب ورواد الموالد، هو الحدث الأهم في مصر، وغطي علي كل مشاكل الحكومة أو انتخابات المحليات واعتقالات الإخوان، وصراعات الأحزاب، وارتفاع أسعار كل السلع الأساسية وبالطبع غير الأساسية، ورغم أنه كان مولد سيدهم الحضري إلا أن المولد صاحبه كان غائبا. ووسط هذه الأجواء وعدم وجود تفسيرات أو مبررات منطقية للأشياء، لا أعرف إن كانت لمشكلة الحضري علاقة باستقلال كوسوفو أم.. وهل لها علاقة تهدد انعقاد القمة العربية القادمة، أم أن عدم اختيار رئيس جديد للبنان مرتبط بحل أزمة عصام الحضري، وهل حل أزمة الحضري من شأنه وقف المجازر والمحرقة الإسرائيلية للفلسطينيين في قطاع غزة أم لا. لا أعرف مبررا واحد لجعل قضية الحضري بهذا الحجم، فمهما كبر أو صغر أو كان لاعبا في الأهلي أو المنتخب فهو لاعب كرة، إن هرب، فمع ألف سلامة، وإن عاد فهو حر.. إن عاقبه الأهلي فهذا حقه، وإن صفح عنه فمن عفا وأصلح، ولكن أن يتحول الحضري إلي بطل قومي، وأن تأخذ قضيته كل هذه الأبعاد فهذا أمر غير مقبول أو مبرر. واللافت أيضا في هذه القضية هو حجم المشاعر الانقلابية للناس فعندما هرب الحضري نال من الشتائم والسباب ما لم يطل لاعبا في تاريخ مصر، ناهيك عن اتهامات الخيانة، وعدم الوطنية والمطالبة برأسه وسحب جنسيته، واتهام زوجته بالإساءة للإسلام بسبب نشر صور لها في سويسرا بعد أن خلعت الحجاب.. ثم الانقلاب علي هذا الموقف عندما عاد رغما عن أنفه وليس إراديا كما يدعي بالتعاطف الشديد ومطالبة مجلس إدارة الأهلي بالصفح عنه، ومعاملته معاملة أبوية رغم ما فعله وتوريط الأهلي في بطولة أفريقيا دون حراس مرمي آخرين. التحول في المزاج المصري أمر مخيف للغاية، وعاطفية الشعب المصري ليست مبررا لمثل هذه الانقلابات، لا أحد يطالب برأس الحضري ولا عزله أو رجمه أو دفعه للاعتزال، ولكن أن يكون الرأي العام في مصر أكثر اهتماما بأمور أخري أفضل وأكبر من الحضري وتحولاته.. هذا التناقض في المشاعر تجاه الأمور لا يبشر بأن الناس قادرة علي إحداث أي تغيير سواء إزاء موقف يدفعهم للاتهام بالخيانة.. أو موقف آخر يجعلهم متسامحين وعاطفيين بمثل هذه الصورة. يا سادة في مصر من المشكلات والأزمات، والمصائب والكوارث ما هو أكبر وأهم وأفضل عند الله والناس من مثل مشكلة الحضري.. ولو أن الناس فعلت ما فعلته في القضايا المهمة لكانت قد تغيرت أمور وأوضاع كثيرة واضطرت الحكومة إلي حل الكثير من المشاكل العالقة والمزمنة التي لا تسعي إلي حلها إلا بعد وقوع الكوارث مثل الزلازل والفساد ونهب الأموال والمتاجرة بقوت الشعب وأرزاقه، ولكن يبدو أن الشعب المصري يحن علي الحكومة ويمنحها المبررات والفرص والغطاءات التي تنجو بها من كوارثها وتمرر بها قوانينها دون أن تحل أي مشكلة.. وبعد فض مولد سيدهم الحضري سننتظر نحن المصريين موالد أخري تشغل الناس والشارع عن تحسين الأوضاع وحل المشكلات.