ثمة حلقة ضائعة في النقاش الذي أثير حول سلوك شركة ''بلاك ووتر'' الذي أودي بحياة مدنيين عراقيين أبرياء، فالواقع أن شركة الأمن لا تقوم سوي بتنفيذ ما نص عليه عقدها مع وزارة الخارجية الأمريكية التي كلفت بحماية دبلوماسييها. ولذا لن يفيد في شيء وضع ''بلاك ووتر'' والشركات الأمنية الأخري العاملة في العراق تحت إشراف وزارة الدفاع كما أُعلن عن ذلك يوم الثلاثاء قبل الماضي. لقد تعرضت الشركة منذ ذلك الحادث لانتقادات عنيفة بسبب ما يصفه الكثيرون بالتكتيكات المفرطة في العنف التي تتبناها الشركة، غير أن الأمر ليس مرتبطاً بالاستخدام المفرط للعنف من قبل الشركة الأمنية، بقدر ما يرتبط بتشدد وزارة الخارجية الأمريكية في عدم السماح بسقوط ضحايا من موظفيها في العراق وتفادي ذلك بشتي الوسائل والسبل. الحال أن هذه المقاربة تُضاعف من احتمال تكرار مآسي مشابهة لتلك التي حدثت في شهر سبتمبر الماضي، خاصة وإن إرسال عدد كبير من الدبلوماسيين والموظفين إلي العراق للمشاركة في عمليات إعادة الإعمار وبناء الدولة العراقية لن يمر دون دفع ثمن قد يكون باهظاً أحياناً، وهو ما بدأت وزارة الخارجية تدركه مؤخراً. اللافت أن الشعبة المسئولة داخل الحكومة الأمريكية علي تعزيز العلاقات مع الحكومة والشعب العراقيين هي ذاتها المسئولة عن تآكل الدعم العراقي وتلاشيه، لقد وضعت مصلحة الأمن الدبلوماسي التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية قواعد تنظم استخدام القوة من قبل المتعاقدين فيما يسمي ب''سياسة مهام إطلاق النار''، وفي الشهر الماضي أوصت لجنة مصالح الحماية الشخصية في وزارة الخارجية الأمريكية بتعديل القواعد المتشددة، ومنح ضمانات إضافية حتي لا تتكرر حوادث إطلاق النار العشوائية مثل ''الأخذ في الاعتبار سلامة المدنيين، وبذل الجهود لتجنب وقوع ضحايا منهم''. وفيما يتعلق بشركة ''بلاكووتر'' فقد نفذت أكثر من 16500 مهمة أمنية بموجب العقد الموقع مع وزارة الخارجية، ولم تلجأ إلي إطلاق النار سوي في 1% من تلك المهام. وطيلة تلك الفترة التي تولت فيها ''بلاك ووتر'' حماية الدبلوماسيين الأمريكيين كان المشرفون من وزارة الخارجية حاضرين وشاهدين علي العديد من حالات إطلاق النار، ولم يعارضوا السلوك العدائي للشركة. ولا بد من الاعتراف أن وزارة الخارجية الأمريكية تتحمل مسئولية واضحة، فكما أكد ''إيريك برينس'' -المدير العام لشركة ''بلاك ووتر''- بقوله: ''تقوم وزارة الخارجية بتحديد المهام وتخصيص السيارات وتوفير السلاح، وهم يقولون لنا أين نتوجه وماذا نفعل''، وحسب العقود الموقعة بين الطرفين، تسمح الوزارة بانتهاج أساليب عنيفة وتكتيكات متشددة في الدفاع عن الدبلوماسيين مما يزيد من احتمال سقوط مدنيين؛ ومن غير المرجح أن يؤدي استبدال ''بلاك ووتر'' بشركة أخري، في حين أن تطبيق ''سياسة مهام إطلاق النار'' مع قواعد القيادة المركزية للجيش الأمريكي يعد أولي الخطوات علي الطريق الصحيح. ومع أن نقل الإشراف علي الشركات الأمنية من وزارة الخارجية إلي وزارة الدفاع قد يساعد علي الأقل في تحديد مقرات الشركات في العراق ووجهات تحركها، إلا أن ذلك لن يضيف الكثير إذا ما استمرت الشركات تتلقي أوامرها من الضباط المتعاقدين مع وزارة الخارجية. لقد فتحت وزارة الخارجية تحقيقاً داخلياً وأعفت رئيس مصلحة الأمن الدبلوماسي، إلا أن منح الحصانة للمتعاقدين المتورطين في عملية إطلاق النار العشوائية ببغداد يشكل سابقة خطيرة، لا سيما وأن مكتب الأمن الدبلوماسي هو المسئول عن التعاقد مع ''بلاك ووتر'' ومراقبة المهام التي تقوم بها، فالمتعاقدون يفترض بهم الخضوع لنفس المعايير والقواعد القانونية التي يخضع لها الموظفون الفدراليون، وإلا فإنه سيصبح من السهل علي الحكومة ليس فقط تصدير مهامها إلي القطاع الخاص، بل أيضا إعفاءه من المسئولية في حال تورطه. وفي هذا الإطار يبرز دور الرأي العام الأمريكي والكونجرس اللذين يتعين عليهما ألا ينخدعا بمسألة تفويت المهام إلي المتعاقدين، والبحث عن المسئولين الحقيقيين الذين ركزوا علي حماية الموظفين الأمريكيين وتهاونوا في الحفاظ علي حياة العراقيين.