ليس لدي صناع السياسة والمحللين الاستراتيجيين في العالم العربي سوي ثقة محدودة في أن الزيادة في عدد القوات الأمريكية ستكون قادرة -في أحسن الأحوال- علي ما هو أكثر من تأجيل الانهيار السياسي- الأمني في العراق، الذي يخشون أشد الخشية من امتداده عبر الشرق الأوسط. وخلال الأحاديث المطولة التي أجريتها خلال رحلتي الأخيرة إلي كل من مصر والأردن وسوريا مع بعض المفكرين والمحللين في تلك الدول، ومع بعض العراقيين الذين يتمتعون باتصالات جيدة، سمعت الكثير عن الكيفية التي يؤثر بها ما يحدث في العراق علي مجتمعات تلك الدول. والأخبار التي سمعتها من أصدقائي العراقيين -تحديداً- وهم رؤساء لمنظمات حكومية وشبه حكومية كانت كئيبة للغاية. كنت أعرف أن هناك أناساً قد قاموا بتقديم الدعم للغزو الأمريكي عام 2003، ثم عملوا بعد ذلك بجدية من أجل بناء نظام ديمقراطي فعال في بلدهم، ولكنهم يشعرون الآن بالإحباط واليأس لما آلت إليه الأمور. ولكنهم كانوا مع ذلك مدركين لحقائق الواقع بشكل عام وهو ما كان واضحاً من الأحاديث التي أجريتها معهم، والتي حاولوا فيها أن يحددوا بدقة موضع الأخطاء العديدة التي ارتكبها الأمريكيون في العراق. حكي لي هؤلاء الأصدقاء كذلك الكثير من القصص المأساوية للغاية عن العنف والطائفية اللذين يؤثران علي كل إنسان داخل العراق في الوقت الراهن. وقد سألت أحد هؤلاء الأصدقاء عن توقعاته لما يمكن أن يحدث في العراق، إذا ما غادرته القوات الأمريكية في القريب العاجل؟ فقال لي إنه يعتقد أن هناك احتمالاً لأن يؤدي مثل هذا الانسحاب إلي جعل إخوانهم العراقيين يحزمون أمرهم ويوحدون جهودهم ويعملون جدياً من أجل التوصل إلي تسوية عملية. ولكنه أضاف في عبارات واضحة: "أما إذا ما بقي الأمريكيون فإنني أتوقع أن الوضع سيظل علي سوئه". كان صديقي هذا يزور الأردن لعدة أيام قادماً من العراق، ولكنه كان يخطط للعودة مجدداً والبقاء هناك لفترات أطول، وذلك بعد أربع سنوات قضاها في محاولة بناء مؤسسات قطاع عام قوية في العراق، تبين له في النهاية أنها لم تجدِ نفعاً مما دفعه لأن يقرر التخلي عن مسعاه، والاستعداد للانضمام إلي ما يزيد علي مليوني عراقي هربوا من البلاد منذ أن بدأت الحرب. والكارثة السياسية والاجتماعية المتواصلة فصولاً في العراق أرسلت موجات صادمة عبر أنحاء العالم العربي الكبير أيضاً. ففي القاهرة قال لي أحد كبار المحللين في "مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية" إن العرب قد نظروا للعراق طويلاً علي أنه الحصن الحصين الذي يقف في وجه توسع الدولة الإيرانية من الشرق، أما الآن وبعد أن تهاوي ذلك الحصن تقريباً، فإن العرب يرون أن النفوذ الإيراني قد تغلغل عميقاً في العراق، وأنه قد غدا يشكل تهديداً مباشراً لاستقرار العديد من الدول العربية وخصوصاً دول الخليج. وأخبرني هذا المحلل أيضاً عن التهديدات الأخري التي بدأت مصر والدول العربية تشعر بها بعد انهيار الدولة العراقية ومنها علي سبيل المثال التهديد الخاص بإمكانية انتشار الفوضي ونزعة العنف والطائفية. والهاجس الذي يسيطر علي أذهان قادة تلك الدول بشكل خاص هو الخوف من عودة المقاتلين العرب الإسلاميين الذين مكثوا لفترة في المناطق التي تسودها الفوضي والخارجة عن النظام ذات الأغلبية السُّنية في العراق، وذلك بعد أن اكتسبوا مهارات عديدة في تنظيم وتنفيذ العمليات الإرهابية. وتحدث أعضاء مجموعة الأصدقاء التي ناقشت معها عن التداعيات التي عمت المنطقة بأسرها بسبب وجود القوات الأمريكية في العراق، والتي تجد نفسها -القوات- حالياً في مأزق يصعب الخروج منه. وتوقع هؤلاء أن تلك القوات ستشهد تخفيضاً كبيراً في أعدادها، أو ربما انسحاباً كاملاً من العراق خلال فترة تتراوح ما بين 16- 18 شهرا ًبصرف النظر عما إذا قامت واشنطن بعقد اتفاق مع طهران أم لا. وقد علق د. عبد المنعم سعيد رئيس "مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية" علي النقطة الأخيرة بقوله إن مثل هذا الاتفاق قد يتطلب مجرد تنسيق عسكري بين الدولتين، أو قد يتطلب عقد "صفقة كبري" بينهما يتم فيها حل كافة المسائل العالقة، بما فيها البرنامج النووي لإيران ودورها في الشرق الأوسط الكبير، وأن تلك الصفقة لو تمت فستكون لها تداعيات واسعة النطاق ليس علي المنطقة فقط، ولكن علي العالم بأسره. في ذات الوقت يؤكد هؤلاء أن الانتشار الواسع النطاق للقوات الأمريكية في المنطقة قد تحول من ميزة تصب في مصلحة أمريكا في المنطقة إلي عبء يساهم في تآكل قوة أمريكا ونفوذها ومكانتها. وقد أكد لي المفكر الاستراتيجي "حسين آغا" الذي قابلته في لندن أن جميع الدول المجاورة للعراق تفضل أن تظل القوات الأمريكية متورطة في العراق -كما هو الوضع حالياً- بدلاً من الانسحاب، لأن الوضع القائم حالياً يقلل من احتمال إقدام أمريكا علي مهاجمة تلك الدول، كما أنه يمثل بالنسبة لدول أخري وضعاً مفضلاً لأنه يحول دون حدوث حالة من الفوضي والاضطراب الشامل قد تلي انسحاب القوات الأمريكية من العراق. والتقدير الذي توصل إليه "آغا" يبدو سليماً في المجمل. فبعد مرور أربع سنوات علي اتخاذه لقراره بغزو العراق يجد الرئيس الأمريكي بوش نفسه في وضع شبيه بالوضع الذي وجد رئيس الوزراء البريطاني "أنتوني إيدن" نفسه فيه بعد اتخاذه لقرار غير حكيم بغزو منطقة السويس في مصر عام 1956، والذي مثل في حينه عملاً من أعمال التدخل العسكري غير المتروي، والذي عجل بالتقلص اللاحق للقوة الإمبراطورية البريطانية. والسؤال المُلح في الوقت الراهن هو: ما هي الطريقة المثلي لمعالجة التداعيات التي نشأت عن غزو العراق.. وكيف يمكن تقليل المخاطر التي تلوح في الأفق إلي أقل حد ممكن؟ ما لاحظته أن كل شخص من الأشخاص الذين تحدثت معهم خلال رحلتي الأخيرة كان مصراً علي أن واشنطن بحاجة إلي البدء في بناء علاقات جديدة ومباشرة مع إيران، يمكن من خلالها التقليل من حجم التوتر داخل العراق ومن حوله بطريقة أكثر فعالية مما يتم به ذلك في الوقت الراهن. كما رأي هؤلاء جميعاً صلة واضحة بين النفوذ الأمريكي في المنطقة بشكل عام، وبين سياستها نحو الفلسطينيين، وجادلوا بقوة وإقناع من أجل التدليل علي أن تحقيق تقدم حقيقي من أجل التوصل إلي سلام نهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين يمكن أن يقدم مساعدة كبيرة للولايات المتحدة تمكنها من معالجة الوضع داخل العراق ومن حوله. وقال لي هؤلاء أيضاً إن الزعماء العرب والفلسطينيين مستعدون للدخول في مباحثات سلام جدية وتساءلوا عما إذا كانت واشنطن تمتلك الرؤية ودرجة الفعالية المطلوبتين لتحقيق تقدم حقيقي في هذا المضمار أم لا؟