تتجه الأنظار كلها الآن صوب إيران، والمعركة المشتعلة بينها وبين الغرب من جهة، وبينها وبين مجلس الأمن من جهة أخري. والمعركة تدور في الأساس حول نشاط إيران النووي، والخوف من تحوله في المستقبل إلي إنتاج أسلحة نووية بعد امتلاك إيران لقدرة تخصيب اليورانيوم، وهي الخطوة الحرجة الرئيسية في الطريق إلي امتلاك القنبلة. وبعيدا عن الجانب القانوني للموضوع، ومدي أحقية إيران في امتلاك تلك التقنية الحساسة من عدمه، يبدو المعسكر المناهض لإيران كبيرا وممتدا بدرجة لافتة للنظر، حيث يحتوي داخله علي الولاياتالمتحدة وإسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي ودول حلف الناتو واليابان وكوريا الجنوبية واستراليا وخليط واسع من الدول الآسيوية والإفريقية وأيضا من أمريكا اللاتينية. ويجب ألا ننسي عند تقييم موقف إيران في تلك المعركة أن الدول الخمس الدائمة في مجلس الأمن، بما في ذلك الصين وروسيا، تري في موقف إيران تهديدا للسلم والأمن الدوليين، طبقا لقرار مجلس الأمن رقم 1737 الذي يُطالب إيران بوقف تخصيب اليورانيوم كشرط لرفع العقوبات والدخول في مفاوضات معها. وإذا قارنا بين حال إيران الآن وحال العراق قبل حرب مارس 2003، نجد أن موقف إيران أكثر صعوبة. فمجلس الأمن لم يُدن العراق، كما أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية وقفت بجانبه بعكس موقفها الحالي من طهران. وحتي لو خرجت أصوات من بعض الدول تستبعد الخيار العسكري، إلا أن الأغلبية تري في الحصار والعقوبات الاقتصادية والدبلوماسية وسيلة ضرورية لوقف طموحات إيران النووية. ولنا أن نتصور حالة دولة تتعرض للمقاطعة من هذه الجبهة الاقتصادية والدبلوماسية العريضة من الدول والشركات والبنوك والمنظمات الدولية لنعرف أن إيران في الحقيقة سوف تُواجه جيوشا أكبر وأعمق تأثيرا من الجيوش المسلحة. خارج هذا التآلف الواسع ضد إيران لا يتبقي لها بعد ذلك سوي دول الشرق الأوسط ومجموعة الدول الإسلامية. وتُعد إيران من الدول المحورية في محيطها الإسلامي والآسيوي والشرق أوسطي. فعدد سكانها كبير، وتطل من ناحية علي العالم العربي، كما تطل من الناحية الأخري علي وسط آسيا، فضلا عن حضارتها الموغلة في القدم، وثقافتها الثرية، وقيادتها للعالم الشيعي كأحد التيارات الأساسية للفكر الإسلامي. ومع ذلك، وبكل المقاييس المعروفة للعلاقات الدولية، لا نجد أن إيران علي علاقات حميمة مع أغلبية دول هذا المحيط ما عدا علاقاتها الثنائية مع سوريا والسودان وهي علاقات أمنية أكثر منها صلات وروابط شاملة. كذلك نري علاقات إيران مع روسيا والصين والهند وباكستان وأفغانستان وتركيا أقل من المستوي الكافي بالنسبة لهذه الدول للوقوف في معسكر إيران علانية في مواجهة مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي فضلا عن مجلس الأمن. وحتي الجماعات المسلحة الموجودة خارج النظام الدولي مثل تنظيم القاعدة وطالبان والمتصدية لأمريكا والغرب فسوف تحتاج إلي حسابات كثيرة إذا ما قررت دعم إيران بعمليات إرهابية. حتي حزب الله، وفي التوقيت الحالي بالذات وما يحيط به من شكوك داخل لبنان وخارجه، لن يمكنه تقديم الكثير لإيران، بل قد يتأثر هو بما يصيب طهران من عقوبات. ما هو السبب وراء قلة حلفاء إيران؟ وخفوت دورها الإقليمي؟ ووجودها باستمرار خارج السرب العام وعلي مسافة من المبادرات والعمليات السياسية والتنموية الكبري المُحددة لمستقبل الشرق الأوسط والعالم بشكل عام. علي امتداد سنوات الحرب الباردة، لم تتمكن إيران من لعب دور إقليمي بناء _ حتي ولو كان ثوريا _ يجعلها من خلال نتائجه من بين الدول القائدة للإقليم والموجهة له. والسبب أنها كانت تسير بشكل دائم ضد التحولات الإقليمية الكبري الجارية فيه. اختارت إيران خلال الحرب الباردة الوقوف في معسكر الولاياتالمتحدة وإسرائيل في حين كانت التحولات الأساسية الجارية في الإقليم تسير في اتجاه التحرر الوطني من الاستعمار، وصعود الفكر القومي العربي بقيادة عبد الناصر، والتأكيد علي الاستقلال ورفض الانضمام إلي الأحلاف الغربية ضد الاتحاد السوفييتي كما فعلت إيران في عصر الشاه. وفي تلك الحقبة احتفظت طهران بعلاقات أمنية وطيدة مع إسرائيل، واحتلت مكانة محورية خاصة في الترتيبات الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط، وكانت طهران من أهم مراكز المخابرات الأمريكية في المنطقة ضد القوي العربية القومية، لذلك كانت بعيدة عن روح الإقليم وحركته التاريخية. ومع الإرهاصات الأولي لخروج الاتحاد السوفييتي من المنطقة في سبعينات القرن الماضي، ثم انتقال مصر في عصر السادات بعد حرب أكتوبر من المعسكر الشرقي إلي الغربي، وتبنيها لعملية السلام في الشرق الأوسط، بدأت طهران في السير في الاتجاه المضاد مع نجاح الثورة، بل دخلت في حرب طويلة مع العراق شاركت فيها معظم دول الخليج بسبب ما ساورهم من شكوك حول نوايا الثورة الإيرانية. باختصار فشلت طهران _ بصرف النظر عن الجانب المسئول عن ذلك _ المشاركة في قيادة المنطقة، أو في تطوير أو تعديل تحولاتها الأساسية بما يناسب التطورات العالمية التي دهمت العالم بعد سقوط حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي. ولا يوجد في التراث الإيراني الثوري ما يُماثل تأثير ثورة عبد الناصر في تغيير الإقليم والعالم، ولا النظرة الشاملة إلي الدوائر العربية والإسلامية والإفريقية كما فعل عبد الناصر. باختصار وجدت إيران نفسها مرة أخري تسير عكس التيار الإقليمي. ففي الوقت الذي بدأت فيه دول محورية مثل مصر تعترف بإسرائيل، كانت إيران تقطع علاقاتها مع إسرائيل ومصر برغم أن كل الدول العربية بعد ذلك صححت موقفها من مصر ومن عملية السلام. ثم احتضنت طهران رموز من قتل السادات، ووقفت ضد عملية السلام مع إسرائيل حتي وصلت في وقتنا الحالي إلي الدعوة لمحوها تماما من الوجود. وربما كان استضافة شاه إيران في مصر بعد خروجه من إيران ثم دفنه في أرضها تعبيرا رمزيا عن تقاطع الطرق وتبادل الأدوار مع إيران، وهو شئ ناتج في الأساس من اختلاف رؤية إيران بعد ثورتها الإسلامية عن الرؤي السائدة في العالم والإقليم خلال تلك الفترة وعجزها عن رؤية التحولات الجارية في العالمين العربي والإسلامي. وأكثر ما يشرح هذه المعضلة، أن إيران تركت المعسكر الفائز في الحرب الباردة وتمردت عليه في نفس لحظة انتصار هذا المعسكر وتسلمه لقيادة العالم فكريا وحضاريا مع أنها كانت صاحبة جزء من هذا النصر. خلال سنوات التسعينيات، رفضت إيران ومعها سوريا الانضمام للمحادثات متعددة الأطراف، وكانت هذه المحادثات من بين الأنشطة الرائدة في الشرق الأوسط، وكان الهدف منها النظر إلي الإقليم بصورة أكثر اتساعا من الإطار العربي. وفي هذه المحادثات بدأ حوار إقليمي حول المياه والسلام والحد من التسلح والأمن الإقليمي واللاجئين والبيئة. وبرغم توقف هذه المحادثات بعد سنوات من بدئها فقد فضلت إيران من البداية السير خارج السرب الداعي للسلام والعمل الإقليمي المشترك، بل إنها في أكثر من مناسبة كانت مشجعة وداعمة للفصائل المناوئة لعملية السلام وأوسلو وعودة عرفات ورفاقه إلي الأرض المحتلة وإقامة السلطة الفلسطينية هناك. ولاشك أن الموقف الإيراني كان له معجبيه في العام العربي، إلا أنه في كل الأحوال كان بعيدا عن التيارات الأساسية التي تري حتي الآن في السلام مشروعا إقليميا لا يجب التراجع عنه. وعندما جاءت الفرصة لطهران للقيام بدور في العراق وهو ملعب قريب من ساحتها عملت علي إذكاء الفرقة والطائفية هناك وأصبحت جزءا من المشكلة لا جزءا من الحل . وربما كانت الحرب اللبنانية- الإسرائيلية الأخيرة شاهدة علي طريقة أداء إيران كدولة إقليمية، وكيف أنها كانت ومازالت للأسف من عوامل الاستقطاب السياسي والطائفي هناك. وبرغم أن حزب الله هو الذي حرر الجنوب اللبناني بدعم إيراني _ تدريبا وتسليحا _ إلا أن التحول بعد ذلك لبناء الدولة اللبنانية لم يعجب سوريا ولا إيران لغيبة أية تصور إقليمي إيجابي وبناء عند البلدين وهو ما جعلهما حتي الآن بعيدين عن المبادرات الأساسية في المنطقة بل معطلين لها بصورة دائمة.