اعترف بداية بانني واحد من القلة التي امتنعت حتي الآن عن الإقدام لاقتناء التليفون المحمول. كما اعترف بأنه كانت لي أسبابي الخاصة في ذلك وبخلاف المخاطر الصحية التي أشار إليها بعض الأطباء أو المتخصصين، الذين تحدثوا عن مضاره وخصوصا علي المدي الطويل. وإذا حاولت ان اطرح أمام حضراتكم اسبابي التي دفعتني للعزوف عن اقتناء المحمول، فإن أول ما يتبادر إلي ذهني هنا هو قناعتي بعدم حاجتي اليه أصلا، كما انني وربما لطبيعة تخصصي العلمي والمهني في مجال علم الاقتصاد كنت استشعر دائما، وبملاحظتي ومراقبتي لمعظم أشكال استخدام المحمول من حولي وفي الشارع وحتي في وسائل المواصلات المختلفة بأن معظم هؤلاء قد سلموا ذقونهم وحوافظ نقودهم طائعين راضين لشركتي المحمول العاملتين في مصر حاليا، واللتين استخدمتا الإعلان والإعلام للقيام بأكبر حملات الدعاية والإعلان التي شهدناها في العصر الحديث، وذلك بغرض الاستحواذ علي الحصة الأكبر من مستهلكي هذه الخدمة، كيف حدث ذلك؟ ولمصلحة من؟ وما هي خطورة عدم وجود سقف لما يقال في الرسالة الإعلانية وما يجب ان لا يقال، وخاصة إذا بدأ جنوح الإعلان وطغيانه للعبث في عقول الشباب ودغدغة مشاعرهم وتزييف وعيهم وتسطحية، بل وغرس بعض القيم الهدامة في حياتهم، مثل الترديد الدائم في الإعلان الذي يشاهده الملايين في التليفزيون حاليا لمقولة "ورانا إيه"!! والذي يدعون من خلال بعض المطربين والمطربات من الشباب - جموع الشباب من الجنسين ممن يشاهدونهم للاستمرار في "الرغي والثرثرة والدردشة" تحت ذريعة ومبرر "ورانا إيه" حتي وإن انفقوا الأموال التي بحوزتهم أو بحوزة أولياء أمورهم في هذا الهزل، والتي تذهب بسهولة ويسر بالملايين لتصب في خزائن شركتي المحمول من خلال تلك الملهاة وعلي رؤوس الأشهاد! وقد مر الإعلان بمراحل متتالية صاحبت التطور الاقتصاد والاجتماعي الإنساني ومع تقدم وسائل الاتصالات والعلوم وظهور المخترعات الحديثة بدأ الإعلان انتشاره وتطوره وتنوع أساليبه ومستوي تحريره وتصميمه وإخراجه إلي الدرجة التي بات الإعلان فيها متصلا بالعديد من العلوم الأخري كعلم النفس والاجتماع وغيرها ثم انطلق الإعلان لبضع المباديء والاصول الخاصة به، والتي مكنته من ان يتلمس طريقة بين فروع المعرفة الأخري حتي اثبت وجوده كنشاط متميز. وحديث تبدت أهمية الإعلان وتأثيره الفعال في مجال توسيع حجم المبيعات من السلع والخدمات وكذلك تنشيط الأسواق وايضا محاولة إغراء الأفراد أو المجموعات المستهدفة وتحفيزهم لشراء سلع وخدمات بعينها دون الأخري. وما يهمنا هنا أننا مع الإعلان الذي يعرف الأفراد بشكل سليم وأمين للسلع والخدمات التي يدعو لشرائها أو استخدمها. ومن خلال عملية الاتصال الجماهيري التي يقوديها والرسالة الإعلانية التي يحاول فيها إقناع المستهلك بالمعاني الصحيحة المستهدف ايصالها لذلك المستهلك. وتفترض النظرية الاقتصادية عند معالجتها لسلوك المستهلك ان ذلك المستهلك بتسم بالرشد أو الرشادة الاقتصادية بمعني ان المستهلك لن يقدم علي شراء سلعة أو خدمة معينة إلا عندما يتأكد ان المنفعة التي ستعود المتلاحقة التي شهدها المجتمع المصري مؤخرا وميل قطاعات كبيرة منه لتقليد ومحاكاة انماط الاستهلاك الترفي فهنا يمكن ان ندرك ونتفهم طبيعة وحجم وتكلفة وأهداف الإعلانات التي تنهمر علينا وتلاحقنا من قبل شركتي المحمول العاملتين في مصر ، وبهذه الوتيرة المتسرعة. ففي ظل الصراع المحموم بين الشركتين وقبل ان تمارس شركة المحمول الثالثة نشاطها خلال الشهور القليلة القادمة. اندفع أصحابها ومديرو التسويق بهما. إلي دفع مستهلكي خدمات المحمول يهدف تحويل القوة الشرائية للمستهلكين إلي طلب فعال علي منتجاتها، رأينا ذلك بوضوح في التخفيض المتتالي لأسعار الخطوط امكانية توفير الخطوط للمستهلكين أو لمحدودي الدخل منهم بالتقسيط وإطالة أمد فترات استخدام كروت الشحن إرسالا واستقبالا وغيرها من الخدمات التي لا يمكن لمثلي ان يحصيها. وإذا كان ما سبق يمكن تفسيره أو تبريره اقتصاديا من خلال الممارسات التنافسية أو سوق "احتكار القلة" التي تدور الشركتان في فلكها، حيث تستهدفان من وراء زخم الإعلانات التي يقدمانها - علي الرغم من التكلفة الباهظة لها - تغيير سلوك المستهلكين القدامي واستقدام مستهلكين جدد لسوق المحمول حيث الدردشة التي تدعو اليها الإعلانات المتكررة والملحة معا ولا يخفي علينا بالطبع ان الصراع المحتدم بين شركتي المحمول وإن كان لا يحتاج في كثير من الأحيان إلي تغيير سلوك الأفراد تغييرا أساسيا، إلا أنه عادة ما تسعي إحداهما إلي تحويل تفضيلات المستهلكين من خدمة منافسة يقدمها الآخر، لكي تستحوذ الشركة المعلنة علي ذلك المستهلك وما لديه من نقود في النهاية. وختاما أجد أنه من المناسب ان اعود واركز حديثي السابق، وموقفي فيه وتحفظي علي بعض الذي ورد به وذلك مع النحو الآتي: أولا: أنني اقدر وأعلم الأدوار الاقتصادية أوالتسويقية التي يمكن ان يقوم بها الإعلان الجاد الملتزم كإحدي أهم الوسائل القانونية لتنشيط السوق والترويج للمبيعات، سواء للسلع أو الخدمات. ثانيا: انني ممن يؤمنون بقواعد النظام القانوني لحرية التعبير، إلا ان ذلك لا يمنعني من التحذير ولفت الانتباه لما اعتقد انه تجاوز وخلط للأوراق حتي وان كان ذلك في "إعلان تليفزيوني". ثالثا: انني ازعم بان الذي فكرت فيه وكتبت عنه هنا يستدعي منا ان ندقق كثيرا في المحتوي الإعلامي للإعلانات فلا يمكن والأمر كذلك ان نصمت علي إعلان متكرر وبشكل مستفز يدعو الشباب ذكوراوإنانا لمزيد من الثرثرة والرغي والتعارف عبر أجهزة المحمول بل ويبرر ويجمل لهم ذلك ويدعوهم اليه ولم لا فما الذي يشغلهم؟ وما الذي ورائهم؟ مع علم الشركة المعلنة بان وراء الشباب في مصر الكثير الذي ينبغي عمله. رابعا: ان "أخلاقيات الإعلان" في وسائل الإعلام المختلفة قد أصبحت الآن محورا مهما في أخلاقيات الإعلام حتي ان المؤتمر العلمي الذي انعقد بكلية الإعلام جامعة القاهرة قد اشتمل علي مائدة مستديرة لمناقشة القضية المذكورة، كما تضمنت توصياته الأساسية الإشارة إلي أهمية إنشاء مرصد إعلامي "WATCH MDIA" لرصد وتحليل الممارسات الإعلامية والإعلانية في كل وسائل الاتصال في مصر.