شاهدت علي شاشة التليفزيون، مبهورا، متحسرا، مئات الألوف من اللبنانيين، رجالا ونساء، صغارا وكبارا يهتفون ويتظاهرون تأييدا لزعيم حزب الله السيد "حسن نصر الله"، مطالبين بحكومة وحدة وطنية ، وشاهدت في مقابل ذلك مئات الألوف من اللبنانيين يتظاهرون تأييدا لبقاء وزارة "السنيورة" باعتبارها الوزارة الشرعية. لم يكن الذي اخذ بلبي أي الفريقين علي حق، قد يكون وراء الزعماء - في الكواليس والخفاء دوافع وتأييدات من امريكا لفريق، ومن إيران لفريق آخر، ولكن الألوف الذين اجتمعوا آمنوا انهم علي حق، وان مطلبهم سواء كان حكومة وحدة وطنية، أو الحكومة القائمة، أو الشرعية القديمة، تظاهروا عن ايمان، ولا يمكن لاحد ان يدعي ان هذه الجماعات كانت مدفوعة أو مفتعلة، كما تفعل بعض حكوماتنا عندما تعطي عمالها وموظفيها اجازة وتدفع لهم "نقودا وساندوتش" وتدفعهم لكي يشتركوا في مظاهرة. وفضلا عن هذا ففي المجتمع الديمقراطي لا يعد الاختلاف دليلا علي خطأ فريق وصواب فريق، وانما هو الحرية في الحكم علي الامور الذي يختلف باختلاف الثقافات والاتجاهات ولا يجوز ان يحجر عليه، او يصادر، أو يحكم عليه بحرمان! كما لفت نظري ان الجميع رغم الحماسة البادية لم يكن متشنجا، ولم يسلم نفسه الي صور من التصرفات التي تتسم بالعنف أو حتي بالكره للآخر. واخيرا فإن السلطة كانت تحرس هذه المظاهرات ولا تتدخل فيها. المنظر كله "بانوراما" للديمقراطية، سواء من الزعماء، أو من الجماهير، أو من السلطة. أعلم جيدا ان هذا النزول الي الشارع والاستنجاد له هو نوع من "الكي" الذي يكون آخر الدواء، أو هو اخراج المارد من القمقم، واعلم ان له مخاطره، وان الاسلوب العادي هو الحوار بين المسئولين أو الأخذ بالاسلوب الذي اتاحته الديمقراطية للتغيير، عندما يسحب المجلس التشريعي الثقة من الوزارة فتسقط. اعلم هذا، ولكني اعلم ايضا ان تعقيدات النظم و"العناد" الذي يمتلك بعض اطراف الحوار تجعل الطريق مسدودا وان الوضع لا يمكن ان يصلح بالطريق الديمقراطي المقرر، فهذه الحكومة انتخبت بطريقة شرعية، ولكن تطور الاحداث جاوزها، واظهر قوي جديدة بحيث لم تعد تمثل الشعب حاليا، واصبحت مشروعة من جانب وغير مشروعة من جانب آخر، ولا يمكن اصلاحها بالطريق الدستوري لان البرلمان الذي انتخبها لايزال قائما، وكان يجب عليها ان تلحظ ان الاحداث جاوزتها فتقبل التعديل الذي يجعلها متطابقة مع الوضع الفعلي الجديد، ولكنها تمسكت بأنها الحكومة الشرعية وساندتها كونداليزا رايس فألحقت بها شبهة، كما ان تنديد بعض الحكام بالمسيرات ومخالفتها للطرق الدستورية قد لا يكون خالصا لوجه الله أو الشرعية. أنا شخصيا لا يهمني هذا كله، ان الذي يهمني هو ان يكون الشعب قادرا علي ان يتجمع بمئات الالوف ليبدي رأيه، وان من الممكن ايضا ان يتجمع الألوف ليبدوا رأيا مختلفا، ان هذه عودة الي الديمقراطية المباشرة بعد ان فشلت الديمقراطية التمثيلية. ان الذي يعنيني ان يحتفظ الشعب بإرادته وبإمكان التعبير عنها دون ان تتدخل السلطة و"الأمن المركزي" بدروعه وعصيه وخراطيم المياه، ان الذي يهمني ويغمني هو ان يفقد الشعب هذه الارادة، فلا يتحرك ويفضل السلبية أو يحس بالعجز أو لا يجد القادة الذين يمنحهم ثقته ويكون بمقدرتهم تحريكه. هذا هو ما يعنيني ان يكون الشعب عزيزا قديرا يملك زمام المبادأة ويتدخل عندما يتعقد الموقف، ولا تستطيع السلطة ان تقهره، أو ان تحول دون ان يعلن رأيه. ان خمسين سنة من الحكم العسكري قد قهرت ارادة الشعب وأوقعت في قلبه الرهبة والخوف، الاحاديث المؤكدة عن التعذيب الخسيس دون ان تتحرك السلطة لإيقافه ومحاكمة المسئولين، ان السلطة بدلا من ذلك ترقيهم . أصبح من المستحيل ان نري في الشارع المصري مظاهرة تضم مائة ألف، علما بأن مصر تضم سبعين مليونا، أي اضعاف لبنان، ولا تستطيع الحكومة نفسها حتي عندما تعطي كل عمالها وموظفيها اجازة وتعطيهم مالا و"ساندوتش" فلن توجد في الشارع هذا العدد، ولا يتسم بالصدق والايمان، واغلب الظن ان يضحك معظم العمال علي الحكومة ويأخذوا الفلوس والساندوتش ويذهبوا الي بيوتهم!! ولا يستطيع أي حزب ان يحرك أكثر من عشرات أو مئات، ولا يستطيع الاخوان المسلمون ان يحركوا اكثر من بضعة آلاف، لأن السلطة لدينا لديها من الخبرات ما تعرف به كيف تمنع هذه الاعداد من التجمع من المنبع فتغلق الطرق وتوقف المواصلات.. إلخ، واخيرا فالله اعلم بما سيحدث للذين ينجون في التجمع من الضرب وتمزيق الملابس ثم الزج بهم في عربات الأمن المركزي التي يمكن ان تستوعب الألوف. هذا هو ما اشعرني بالحزن والأسي وانا أشاهد عشرات الألوف تتجمع ولا يتعرض لها البوليس، ولكن يحرسها!!! هل يمكن ان نعود الي ثورة سنة 1919، والي المظاهرات الحاشدة تأييدا للوفد ومقاومة للقصر وللانجليز؟ هل يمكن للاخوان ان يحركوا جموعهم؟ ان عدد الذين كانوا يستمعون لدرس الثلاثاء الذي كان يلقيه المرشد المؤسس حسن البنا، كان يملأ ميدان الجيزة والشوارع المحيطة به وكان هذا يتكرر كل ثلاثاء. وللأسف الشديد لا أظن.. مع هذا فيجب إلا يفقد الأمل، فشعب مصر كالجمل ...