مارسنا في الجزء الأول من هذا المقال مستوي من مستويات النقد الذاتي عرضنا من خلاله أهم ماتعاني منه الجامعة المصرية من أمراض _ مما جعلها تتدهور الي مستوها الحالي _ وسوف نعرض في الجزء الثاني ما نراه خطوطاً عريضة للحل إذا خلصت النوايا وتوفرت الإرادة. علي أن يؤخذ في الحسبان معيار في غاية الأهمية وهو أن المشاكل المركزية كمشكلة التعليم في مصر لا تُحل مركزياً بل يجب التعامل معها جزئياً وبخطوات تراكمية تؤدي في النهاية لحل المشكلة المركزية. خطوط عامة لحل مشكلات الجامعة المصرية: 1 إعادة هيكلية النظام التعليمي كله من خلال نظرة متكاملة والتقليل من الازدواجية فيما يقدم من خدمة تعليمية _ نحن ضد تنميط التعليم ولكننا أيضا ضد التنوع الذي قد يُحدث خللاً في الوحدات الأساسية المكونة للنسيج الاجتماعي.فمما لا شك فيه أن تقديم نوعين من الخدمة إحداهما مدفوعة الأجر والأخري مجانية داخل كيان جامعي واحد سوف يحدث شروخاً اجتماعية تؤثر سلباً في متانة النسيج الاجتماعي. 2 ربط خطة التعليم الجامعي بخطط التنمية _ من خلال رصد دقيق لاحتياجات التنمية من الموارد البشرية .مع ما يتطلبه ذلك من تطوير للمناهج الدراسية وأيضا طرق التدريس في اتجاه التعليم المتخصص وليس العام . وسؤالي هنا لأمانة السياسات أين مصر من مجال البايوتكنولوجي؟ 3 التعامل مع الجامعة علي أنها مؤسسة تعليمية اقتصادية استثمارية _ لأن الاستثمار في عقول البشر هو أعظم وآمن وأنظف استثمار _ لذا يجب إعادة النظر في مجانية التعليم الجامعي المزعومة بما لا يخل بحق التعلم والنبوغ . مع تبني التفوق والموهبة سواء من قبل الدولة أو المجتمع، وأن يعود للتعليم مرة أخري أهميته كأحد أهم مفاتيح الترقي وتحسين مستوي المعيشة وأن التفوق والنبوغ هو أساس التمايز . وهنا أوجه سؤالي للذين يتباكون علي مجانية التعليم الجامعي ... أين هي؟ وأذا كانت موجودة بصورة أو بأخري .. ما هي الخدمة التي تقدمها للعلم والتعليم والوطن ؟؟ نعم مازال التعليم الجامعي في أوروبا (المانيا وفرنسا) يقدم مجاناً ولكن يجب ألا ننسي دور المجتمع المدني والمؤسسات الصناعية ورجال الأعمال والخير في دعم وتقديم الجزء الأكبر من هذه الخدمة _ وهو الدور الغائب تماماً في مصر بالإضافة لذلك يجب ألا نغفل أن هناك فرقاً كبيراً بين التعليم الجامعي الأوروبي المجاني والتعليم الجامعي الأمريكي مدفوع الأجر من حيث الإسهام في النهضة العلمية التي نعيشها الآن . 4 لابد من البحث عن مصادر تمويل جديدة للعملية التعليمية والبحثية بالجامعة سواء من خلال الجمعيات الأهلية (رجال الأعمال) البنوك ... _ وإن كنت أستطيع أن أؤكد علي أن مشكلة التمويل ليست هي السبب الأول في إشكالية التعليم الجامعي في مصر _ وفي هذا الخصوص فلتسمح لي أمانة سياسات الحزب الوطني باقتراح الخطوات التالية لحل مشكلة التمويل سواء علي مستوي الجامعات القائمة أو للجامعات المزمع إنشائها : أولاً الجامعات الحكومية القائمة : إلغاء كل ديون الجامعة لدي البنوك والشركات أو الحكومة . تشكيل مجلس أمناء للجامعة يتولي إدارتها من رجال اعمال ومستثمرين وشخصيات عامة _ إدارة علمية لمشروع استثماري لا يهدف للربح ولكنه يهدف الي تخريج كوادر بشرية مؤهلة تستطيع أن تنافس في سوق العمل الدولي _ بالإضافة الي المساهمة الجادة والمفيدة في مجال البحث العلمي. تعديل قانون الجامعة بحيث يسمح بتحصيل رسوم تعادل الخدمة التعليمية المقدمة. ثانياً : الجامعات المزمع أنشاؤها من قبل الدولة : تقدم الدولة البنية الأساسية للجامعة الجديدة (الأرض/ المياه/ الكهرباء/ الغاز/ البناء). تعديل قانون الجامعة بحيث يسمح بتحصيل رسوم تعادل الخدمة التعليمية المقدمة _ يضاف إليها ما أنفقته الدولة في عملية الإنشاء. ترد الجامعة ما أنفقته الدولة للحكومة في غضون من خمس الي عشر سنوات _ لتدويرها مرة أخري في بناء جامعة جديدة. 5 نحن كذلك في حاجة ملحة لتعديل قانون الجامعات مرة أخري من اجل تشجيع رجال الأعمال والخير علي الانخراط والمبادرة في الدخول في هذا المجال نظراً لحاجة المجتمع وخصوصاً في ظل الانفتاح علي العالم الي كوادر متعلمة ومدربة علي مستوي دولي مما يسهل انخراطها في العمل بسرعة. وسوف أضرب هنا مثلاً بالتجربة التركية كما أوضحها لنا الدكتور منير حداد الباحث بصندوق النقد الدولي بواشنطن حيث تم بها إقرار "قانون المؤسسات الجامعية" (Foundation University Law ) سنة 1982، الذي أقر بإنشاء "مؤسسات غير ربحية هدفها بناء مؤسسات التعليم العالي". ونشأت علي هذا الأساس أول جامعة خاصة في البلاد وهي "جامعة بيلكنت" سنة 1984، علي يد رجل الأعمال إحسان دوغرامسي لتصبح أشهر الجامعات التركية في الوقت الحاضر. ومع نجاح التجربة ، تم تطوير الإطار القانوني ثانية سنة 1991، مما أفرز تأسيس جامعات جديدة بلغ عددها 27 جامعة حاليا. وأصبح تكوين الجامعات الخاصة العمل الخيري الأكثر شعبية بين أثرياء البلاد. لعبت هذه الجامعات دورا أساسيا في وقوف هجرة العقول بل شجعت علي عودة من هاجر منها حيث عاد نصف الأساتذة والباحثين في هذه الجامعات من الخارج، جلبتهم الرواتب المجزية التي تقدر بثلاثة أضعاف ما يوفره القطاع الحكومي. وغالبا ما توفر الجامعات الخاصة الجديدة في تركيا مناهج دراسية في تخصصات ذات طلب كبير في سوق العمل. لكن الإضافة النوعية الأهم للتجربة التركية تتمثل في اعتمادها المناهج الأمريكية المتقدمة للتعليم، مع استعمال اللغة الإنجليزية كأداة للتدريس.. وانعكس هذا علي قدرة الخريجين علي الالتحاق بالجامعات الأمريكية المرموقة لمتابعة الدراسات المتقدمة لشهادات الماجستير والدكتوراه، وبالتالي إنتاج نخب الغد التركية. كما تبين من نتائج الاستبيانات أن خريج هذه المؤسسات يحصل علي معدل عرضين في سوق العمل، وهي نتائج استثنائية مقارنة بتفشي ظاهرة ما يسمي ببطالة حاملي الشهادات الجامعية في المنطقة العربية. حققت الجامعات الخاصة التركية تقدما مهماً علي صعيد تطوير البحث، وذلك بالشراكة مع الجامعات الأجنبية المرموقة ومع القطاع الصناعي الخاص داخل الدولة. وعلي هذا الأساس ، ارتفع عدد البحوث الأكاديمية المنشورة من 450 خلال 1982 إلي 1200 بحثا في السنة الأخيرة. كما ساعد القطاع علي زيادة كبيرة في عدد الطلبة الأتراك الذين يواصلون تعليمهم في أرقي الجامعات الأمريكية الذين بلغ عددهم 15 ألفا، بالإضافة الي40 ألف طالب في الجامعات الأوروبية. تمثل التجربة التركية نموذجا ناجحا علي الصعيد الاجتماعي، حيث ساهمت في مساعدة المتفوقين من ذوي الدخل المحدود. فالاشتراك السنوي للتسجيل في جامعة "بيلكنت" يفوق 10 آلاف دولار. ولا يتجاوز في معظم الجامعات الخاصة الأخري مبلغ 3 آلاف دولار. وهذا المبلغ الأخير يتناسب مع معدل تكلفة تكوين الطالب في جامعات القطاع العام. وهو اقل بكثير من تكلفة الطالب التركي المسجل في الجامعات الأمريكية المقدر بحوالي 25 ألف دولار، مما وفر الكثير علي الأولياء وحال دون خروج الأموال إلي الخارج. لكن تكلفة الجامعات الخاصة بقيت خارج مقدرة الطبقات محدودة الدخل. وتمت معالجة هذا الوضع بتوفير منح دراسية للطلبة المتفوقين، وهي طريقة معروفة تهدف الجامعات الخاصة من ورائها تحسين سمعتها في المجتمع والارتقاء بمستواها التعليمي. استفادت الجامعات الحكومية في تركيا هي الأخري من النظام الجديد، بحكم المنافسة وبالاستفادة من مساهمة الإطار التعليمي للجامعات الخاصة في البرامج البحثية، أننا في اشد الحاجة اليوم إلي استلهام التجارب العلمية الناجحة سواء من تركيا أو الهند والصين وتجارب باقي النمور الآسيوية الأخري.(يتبع)