كان ظني في الشاب الذي يحاورني , أنه مثل آلاف الشباب المخلص الذي يحب دينه ووطنه وأمته الذي ربما افتقد الثقة في قدرة الأمة علي النهوض , والذي عظم لديه قوة أنظمة الحكم المستبدة , وعجز الجماعات أو الأفراد أو الأحزاب علي إمكانية عزلها وتولية غيرها من الحكومات العادلة والتي تعبر عن آمال الشعوب تعبيرا حقيقيا , مثل هؤلاء الشباب كثيرون في أوطاننا المختلفة من المحيط إلي الخليج , لا يقوون علي تحمل الالام في سبيل ما يعتقدون والقدر الأدني اللازم لبناء وطن وازدهاره , أن نشارك في صوغ القواعد والقيم التي تحكمه تارة بالاعتراض علي ما هو قائم بوسائل علنية لها مقاصدها التي تحرك نوازع الخير والشجاعة في نفوس المواطنين الصامتين وكما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلي إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ) و وربما كان الأسهل لدي بعض هؤلاء الشباب أن يضحي بنفسه دفعة واحدة دون أن يمر بمراحل التربية والتدرب وبناء النفس والقلب وبناء الأمة , وقد رأينا هذا في حياتنا العملية مرات عديدة , كانت هذه الفكرة الرئيسية التي سيطرت علي حديث الشاب في حواره معي كيف تتحق النتيجة دون كلفة تؤذيه ؟ قلت للشاب الذي يستعجل النصر من السماء يا ولدي الله سبحانه لا يعطي النصر إلا لمن يستحقه , الله سبحانه لا يمنح النصر لأمة لا تكتفي إلا بالثرثرة لمجرد أنها تنتسب لدين النبي الخاتم , تلك سنة كونية إذا تساوينا مع عدونا في الذنوب والمعاصي تفوق علينا بالعدة والعتاد وكما قال سبحانه في محكم التنزيل ( إن تنصروا الله ينصركم ) وقوله سبحانه ( إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم ) , وانتهزت فرصة إطراق الفتي وباغته بسؤال هل تصلي الفجر جماعة في المسجد ؟ صمت الشاب لبرهة ولم أشأ احراجه واسترسلت في حديثي .. يا ولدي الإسلام بناء متكامل يلزمه التقوي والايمان وحسن أداء الفرائض في أوقاتها قبل أن نتكلم في فنون السياسة والدستور وعلوم الحكم , ولا يعني هذا تنحية جانب علي حساب جانب أخر , بل الاهتمام بكل هذه الفروع في آن واحدة علي الأقل من الجماعة المتصدرة للدعوة والبيان , يلزم أن تتفرد طائفة بالعلم والفتوي علي تفصيل , لكن أداء الشعائر في أوقاتها لازمة يعني بها كل مسلم , يعني بها الجنود ويعني بها القادة , فإذا لم تتوفر هذه الخصائص في الجماعة المتصدرة للدعوة والبيان كانت كغيرها من الجماعات أو الهيئات أو الأمم ليست لها مزية تميزها عن غيرها ومن ثم لا يمنح الله صكوكا بالنصر والتفوق لأمة جاهلة خاملة ضعيفة مستكينة لمجرد أنها ترفع شارة التوحيد تصدر به دساتيرها أو أعلامها وواجهات مبانيها بينما هي تابعة لقوي الاستكبار والظلم تدور في فلكها عاجزة عن بلوغ صدر الحضارات المعاصرة من حيث التقنيات الحديثة في مختلف العلوم والفنون والصناعات والتكنولوجيا . المشكلة الحقيقية أن منا من يصر دائما علي ولوج الطريق من أوله دون أن يلتفت إلي نتائج الأجيال المختلفة وتجاربهم , وهي آفة تكاد تخص الحركات الإسلامية دون غيرها !! وهي تكشف عن داء احتكار فهم الإسلام أو احتكار تمثيله !! ولم يزل البعض منا يصر علي تقسيم فترات الدعوة إلي مكية ومدنية علي ذات النحو الذي استخلصه شيخنا المجاهد الشهيد سيد قطب في بعض كتبه " معالم في الطريق " أو " في ظلال القرآن " لقد كان القسم المشترك الذي تكاد تتوافق عليه كل الحركات الإسلامية علي مر عصورها هو مشروع أسلمة المجتمعات أو ردها لأصولها ومنابعها الصافية , وهذا المشروع هو الذي يحقق لها المد الجماهيري والتأييد الشعبي نظرا لعاطفة الشعوب نحو الإسلام . هنا أثار الشاب المسكين المخلص الذي يفتقد القدوة وندرة الدعاة المخلصين شبهة قد تبدو وجيهة أي إسلام أتبع ؟ في إشارة منه إلي تعددية الجماعات والفصائل , غير أني لم أشأ للحوار أن يكون جدليا لأنها آفة حذرنا منها النبي محمد صلي الله عليه ألا نسترسل في الحوار إذا استحال مراء لمجرد الجدل , وأخذت الشاب البريء لما أراه أكثر تحديدا ووعدته بالعودة إلي ما أثار في الوقت المناسب , أخذته إلي ضرورة تحديد المشروع أولا والعودة إليه ثانيا وأعني به تحكيم الشريعة أو أسلمة المجتمعات , إذ انه لما غاب دعاة هذا المشروع تقدم المنحرفون والمشركون وعلا صوتهم في المجتمعات المسلمة يطالبون بحقوق للشواذ والعياذ بالله تحت دعاوي حرية الرأي والفكر والعقيدة !! تعالي الله عما يقولون علوا كبيرا , ونظمت مسابقات ملكات الجمال وسط القاهرة !! وهكذا تقدم المشهد كل من هب ودب كما نقول في مصر وغيرها من البلدان العربية ليطالب بحصص ومقاعد , وطالب بعضهم بإلغاء خانة الديانة من البطاقات الشخصية !! ويطالب البعض أيضا بإلغاء المادة الثانية من الدستور المصري تحت مبررات التعديلات الدستورية التي يشاع الحديث عنها في مصر هذه الأيام . قلت لمحاوري الشاب دعنا نتفق أولا علي أن تحكيم الشريعة عقيدة لا تحتمل التداول حولها لينظر البرلمان مثلا هل تطبق أم لا ؟ هل تصلح للزمان ام لا ؟ ولما أطرق برأسه موافقا قلت فلنتفق حول الثانية أيضا أن تحكيم الشريعة لا يعني مجرد تطبيق الحدود في مجتمع يفتقر تماما كل آداب الإسلام وأخلاقه وتعاليمه , تحكيم الشريعة يعني دعم الفضيلة والأخلاق كما علمنا خاتم الأنبياء والمرسلين ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) , الأخلاق المسلمة التي تمسك عن زلات اللسان وتتوقف عن ممارسة الغيبة والنميمة , الأخلاق المسلمة تعني أن تتوقف القلوب عن الحقد والحسد , تحكيم الشريعة يعني أن نعين الناس علي الفضيلة , أن يشاهدوا بدائل ممكنة لهذا الفجور الذي تبثه قنوات التلفاز المختلفة تدمر في نفوس النشء كل أثر للفضيلة كما قال قائل : علموا الأولاد في المهد الحرام رضعوهم فحشهم ويا الكلام هدهدوهم بغناء بفسوق بخنن قبل المنام فإذا شبوا فماذا يصنعون ؟ تحكيم الشريعة يعني أن تفشوا في المجتمع ثقافة التسامح والتعايش مع الآخر مع عدم سعي الآخر إلي زعزعة استقرار المجتمع المسلم وأمنه أو تغيير تركيبته , فكل أمة لها هويتها وقانونها العام الذي يعد بمثابة سياج يحتفظ لها بهويتها ونسقها الحضاري الذي ارتضته الأغلبية . ظننت ولدي الشاب قد سرح بذهنه وفكره بعيدا عني حتي فاجأني بسؤال كنت أتوقعه ولكن أي وسيلة أتبع لتحقيق مشروعي قبل توبتكم أم بعدها ؟ وللحديث بقية.