كشفت تجربة حكومة حماس عن عمق الأزمة التي يعاني منها النظام السياسي الفلسطيني. لقد ولد هذا النظام في أحضان اتفاق أوسلو بوظيفة رئيسية هي وضع حد للانتفاضة ولكل أشكال المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، واعتماد المفاوضات سبيلاً للتسوية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ولعب دوراً رئيسياً في ولادة هذا النظام وصول اسحق رابين، رئيس الحكومة الإسرائيلية (آنذاك) لقناعة باستحالة قمع المقاومة الفلسطينية وبضرورة الحل السياسي بديلاً للحل العسكري. لكن اغتيال رابين في 5/11/1995 أجهض هذه القناعة وفتح الباب لعودة اليمين إلي السلطة، إلي أن حاول باراك، مرة أخري، في (يوليو) 2000 أن يستعيد ما كان قد بدأه رابين. لكن مفاوضات كامب ديفيد-2 أعادت التأكيد أن إسرائيل ليست جاهزة للاعتراف بحقوق الفلسطينيين كما يرونها لأنفسهم، وأن الفلسطينيين ليس بمقدورهم تقديم تنازلات إضافية ترضي الجانب الإسرائيلي. وقد أوضحت تجربة كامب ديفيد 2 أن المفاوضات في ظل اختلال موازين القوي، ليست هي السبيل الوحيد للحل، وأنه ما زال أمام مقاومة الاحتلال الشيء الكثير لتفعله. وتلك كانت واحدة من العلامات الرئيسية لأزمة النظام السياسي الفلسطيني. في الوقت نفسه كان النظام الفلسطيني حريصاً علي عدم فك ارتباطه بالحركة الوطنية الفلسطينية حفاظاً منه علي قاعدته الشعبية وعلي مشروعيته الفلسطينية. وقد نجح هذا النظام، بقيادة ياسر عرفات في صوغ معادلة سياسية دقيقة، تمكن خلالها من الوفاء بالتزاماته إزاء الاتفاقات الموقعة، وأن يتناغم في الوقت نفسه مع توجهات الحركة الوطنية الفلسطينية. ومما ساعد النظام السياسي الفلسطيني علي تجاوز خضاته وأزماته السياسية أنه عاش منذ تأسيسه (كسلطة) تحت قيادة حزب واحد، صاغ القانون الأساسي للنظام، وباقي القوانين بطريقة راعي فيها المعادلة السياسية التي تمكنه من البقاء علي قيد الحياة وتطيل فترة حضوره القيادي. وككلّ نظام سياسي، شهد النظام الفلسطيني صراعاً بين مراكز النفوذ، خاصة بعد رضوخ الجانب الفلسطيني لضغوط اللجنة الرباعية، واستحداث منصب رئيس الحكومة إلي جانب منصب رئيس السلطة. فقد احتدم الخلاف (ولا نقول الصراع) علي الصلاحيات والنفوذ بين ياسر عرفات ومحمود عباس (أول رئيس للحكومة في ظل التنظيم الجديد). رحيل عرفات وانتخاب عباس خلفاً له وخسارة فتح موقعها في التشريعي وعلي رأس السلطة التنفيذية لحركة حماس.. كلها عوامل أخلت بالمعادلة القائمة، وأماطت اللثام عن ملامح جديدة للنظام السياسي الفلسطيني، إذ أصبحت السلطة ذات رأسين وخطابين سياسيين، يفترقان في البرنامج وآليات العمل الموصلة إلي الأهداف، عمق هذه الأزمة أن القانون الأساسي فقد دوره في توفير التوازن بين أطراف الحزب الواحد، وصارت صلاحية كل ركن من أركان النظام معرقلة لصلاحيات الطرف الآخر. فرئيس السلطة لا يملك صلاحية حل المجلس التشريعي والدعوة لانتخابات مبكرة. وصلاحيته بحل الحكومة وتشكيل حكومة جديدة رهن بموافقة أغلبية المجلس التشريعي المنحازة لحماس. واحتدام الخلافات في ظل نظام خاضع للاحتلال يفتح الباب لمداخلات إقليمية بإمكانها أن تصب الزيت علي النار، وأن تعطل آليات عمل المؤسسات الرسمية لمصلحة المواجهة المسلحة في الشارع بين الأطراف الرئيسية المتنازعة علي النظام، وعلي برنامجه السياسي. لذلك يمكن النظر إلي الحل المرتقب للأزمة السياسية الحالية في الحالة الفلسطينية علي أنه مؤشر علي المسار الذي سيتخذه النظام السياسي الفلسطيني: إما المراوحة في المكان، ومعالجة الأزمة بأسلوب ترقيعي يزيد من تفاقمها أو الانتقال بالنظام إلي صيغة جديدة لا ندري هل هي منحازة في شكلها الجديد لفتح أم لحماس، أم أن حماس تستجيب لنصائح أصدقائها الداعية إلي الخروج من السلطة، والاكتفاء بلعب دور المعارض في المجلس التشريعي من خلال مراقبة الحكومة، وفي الشارع من خلال الضغط علي المفاوض الفلسطيني.