عندما وافق رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إسحاق رابين علي عودة القائد الفلسطيني ياسر عرفات وأركان منظمة التحرير الفلسطينية إلي غزة والضفة الغربية كان يعتقد أنه بذلك سيقطع الطريق أمام التطرف الإسلامي من قيادة المقاومة الفلسطينية وبالتالي من الوصول إلي السلطة. كانت الانتفاضة الأولي قد وضعت هذه المخاوف في حضن رابين وحكومته وأجهزة مخابراته المتعددة. وكان ذلك يعني نسف الجسور نهائياً بين إسرائيل والفلسطينيين، كما انه كان يعني إعطاء الصراع العربي الإسرائيلي بعداً دينياً من شأنه أن يحرج عدداً من الدول الإسلامية التي اعترفت بإسرائيل وتلك التي بدأت تتعامل معها. وعندما وافق المرحوم ياسر عرفات علي الشروط الإسرائيلية للعودة، لم يكن يعتقد أن "حماس" و"الجهاد" ستتمردان عليه أو أن تمردهما سيصل بهما إلي المستوي الذي يمكّنهما بالفعل من تعطيل التسوية التي وافق علي التفاوض بشأنها مع إسرائيل. كانت الشروط الإسرائيلية لعودة عرفات تقول أولاً بوجوب الاعتراف بإسرائيل بموجب قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338، وثانياً بإلغاء نص في وثيقة منظمة التحرير يقول بالعمل علي إزالتها. وقد استجاب عرفات للشرطين والتزم بهما. عاد عرفات وأصحابه إلي الضفة الغربية. وشكل التزامه الأساس الذي استندت إليه المباحثات السياسية التي جرت بعد ذلك سراً في أوسلو بالنرويج في عام 1993 للتعجيل في وضع تسوية سياسية تقطع الطريق أمام تنامي قوة المعارضة الإسلامية الفلسطينية ومنعها من الوصول إلي الحد الذي يمكنها من تعطيل التسوية أو إجهاضها. ولكن عملية الإجهاض والتعطيل جاءت من المعارضة الدينية اليهودية المتطرفة التي اغتالت رابين، وذلك قبل أن يصلب عود المعارضة الإسلامية. فتوقفت المباحثات السياسية نتيجة لذلك. وساهم خلفاء رابين من رؤساء الحكومات وخاصة نتانياهو في هذا التعطيل تودداً لليهود المتطرفين داخل إسرائيل وفي الولاياتالمتحدة كسباً لأصواتهم ولدعمهم. لم يستطع إسحاق رابين أن يقنع المتطرفين اليهود بالاستراتيجية التي كانت تتحسب لمصاعب صعود المد الإسلامي المقاوم في فلسطينالمحتلة. ولم يستطع ياسر عرفات أن يستدرج الإسلاميين في "حماس" و"الجهاد" إلي مسيرته السياسية التي انتهت في كامب ديفيد بانتهاء عهد الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون. الآن بعد الانتخابات البرلمانية التي حملت حركة "حماس" إلي السلطة، هل تعود الحركة إلي نقطة البداية التي انطلق منها المرحوم ياسر عرفات، أم تصل إلي النقطة التي انتهي إليها؟.. أم أنها ستتمكن من فرض أمر واقع جديد علي إسرائيل وعلي الولاياتالمتحدة؟. لقد وضعت الانتخابات في نتائجها القضية الفلسطينية بكل أبعادها أمام تجربة جديدة. إن فوز حركة "حماس" في الانتخابات بشعاراتها الإسلامية الجهادية المتشددة لم يفاجئ لا السلطة الفلسطينية، ولا إسرائيل، ولا الولاياتالمتحدة. فالشعب الفلسطيني الذي كان وفياً لحركة "فتح" عندما كانت حركة مقاومة، أثبت أنه وفي لحركة "حماس" التي حملت شعار الجهاد والمقاومة، فيما تحوّلت "فتح" إلي حركة سياسية في الدرجة الأولي ثم انغمست في وحول السياسة بكل ما فيها من فساد وسوء استغلال للسلطة. وفي ظل الاحتلال والقهر والاجتياح الإسرائيلي اليومي للمدن والقري الفلسطينية، كان طبيعياً أن يقول الفلسطينيون لا ل "فتح" و نعم مدوية ل "حماس". مع ذلك لم يكن أحد من هذه القوي والمنظمات الفلسطينية علي استعداد للتعامل مع هذا الفوز الذي تمّ بالأسلوب الديمقراطي الذي يتمسكون به جميعاً. فلا الولاياتالمتحدة ولا إسرائيل كانت تريد نصراً ل "حماس" عن طريق الديمقراطية. بل كانتا تريدان الهزيمة لأسلوب المقاومة، وبالتالي كانتا تريدان الهزيمة ل "حماس". لقد فشلت محاولات إسرائيل المتكررة شطب "حماس" من المعادلة الفلسطينية عن طريق الاغتيالات التي مارسها الجيش الإسرائيلي لعدد كبير من قياداتها، وعن طريق سلسلة عمليات الاجتياح للمدن والمخيمات الفلسطينية البائسة، وعن طريق العقاب الجماعي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني. وفشلت الولاياتالمتحدة في تجريدها من شعبيتها عن طريق التهديد والوعيد.. وعن طريق وقف المساعدات الاقتصادية للسلطة الفلسطينيةالجديدة بقيادة "حماس"، وحتي بسحب مبلغ 50 مليون دولار كانت قد دفعته إلي السلطة السابقة، وكذلك عن طريق التهديد بسحب مساعيها السياسية لتحقيق تسوية مع إسرائيل. ولكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح.. ديمقراطياً!!. فالفلسطينيون قالوا نعم ل "حماس". وقالوها باللغة التي يفهمها الامريكيون والتي يدعون بقية دول المنطقة إلي اعتمادها أساساً وحيداً للخطاب السياسي. ومع ذلك كله لابد من السؤال: إلي أين من هنا؟.. أولاً: إلي أين فلسطينياً؟. هل إن "حماس" مجهزة لإدارة دفة السلطة؟.. هل لديها مشروع سياسي للحكم؟. لقد نجحت "فتح" في المقاومة وتعثرت في السياسة، فهل يكون خط "حماس" أفضل؟. هل تتعلم من تجربة فتح؟، أم هل توافق من حيث المبدأ علي الانتقال من المقاومة إلي السياسة؟. وهل إنها علي استعداد لتسديد فواتير هذا الانتقال؟. ثانياً: إلي أين إسرائيلياً؟. هل إن الإسرائيليين غاضبون أو قلقون من النتائج، أم أنهم في قرارة نفوسهم فرحون بها ومطمئنون لها.. لأنها تعطيهم المبرر أمام العالم وخاصة أمام الولاياتالمتحدة وأوروبا للتخلي عن الحد الأدني من التزاماتهم بموجب اتفاق اوسلو، وخريطة الطريق؟. وكيف ستكون انعكاسات نتائج الانتخابات الفلسطينية علي الانتخابات الإسرائيلية المقبلة؟. وماذا يعني أن يتولي السلطة في إسرائيل اليمين الديني اليهودي، وأن يتولي السلطة في فلسطين اليمين الديني الإسلامي؟.. هل يتحول الصراع في فلسطين إلي صراع ديني؟. وإذا حدث ذلك هل إن الدول الإسلامية (54 دولة) مستعدة للدخول في الصراع تحت هذه اليافطة الدينية؟.. وماذا عن الدول الأخري في العالم التي تتوطد لديها يوماً بعد يوم ثقافة ربط الإسلام بالإرهاب؟. وأين العرب غير المسلمين في هذا النوع الجديد من الصراع؟. بل أين الأصدقاء الدوليون المتعاطفون مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية حقوق وطنية وقضية إنسانية في الوقت نفسه؟. ثالثاً: إلي أين عربياً؟. أي عالم عربي سيكون إذا تخلت القضية الفلسطينية عن المظلة الوطنية التي يستظل بها المسلمون والمسيحيون معاً، واعتمدت علي مظلة دينية إسلامية فقط؟. ألا يخشي أن يساء استغلال ذلك لتوظيفه من دون إرادة "حماس"، وحتي رغماً عنها، في مشروع إعادة النظر في الخريطة السياسية لدول المنطقة علي أسس دينية ومذهبية وعنصرية؟.. ثم ألا يعني تنفيذ هذا المشروع التدميري الخطير إعادة النظر في التوزع الديموغرافي علي أسس عرقية ودينية بحيث يبرر إبعاد بقية العرب من فلسطين 1948 (يزيد عددهم علي المليون) إلي الضفة وقطاع غزة، علي أساس يهودية إسرائيل وإسلامية فلسطين؟.