أحسست بمرارة كبيرة وإشفاق عميق، وأنا أري الرئيس الأمريكي بوش، وقد تملكه - علي حد قوله - شعوره بالاحباط نتيجة استمرار عمليات العنف في العراق. كان الرئيس الأمريكي في حالة عالية من التوتر عندما ذكّر سامعيه بأن الانسحاب من العراق سيكون خطأً كبيرًا، وبأنه سوف يتمسك بعدم الانسحاب طالما بقي رئيسًا للولايات المتحدة، وقبل إنجاز المهمة التي تتمثل في إقامة حكومة مستقرة هناك، ومنع من وصفهم بالارهابيين من إقامة ملاذ آمن، يعيقون من خلاله مشروعه لنشر الديمقراطية ودعم الاصلاحيين في الشرق الأوسط.. ولاستمرار دعم وتعاطف واستمالة الرأي العام الأمريكي الذي بات في معظمه مدركًا لخطأ قرار شن الحرب علي العراق من الأساس راح الرئيس بوش - وقد تجهم وجهه - يكرر علي مسامع الحاضرين لمؤتمره الصحفي بأن مواجهة من وصفهم بالارهابيين في العراق كانت ضرورية لكيلا يلاحقوا الولاياتالمتحدة، ويقوموا بمهاجمتها علي أرضها كما حدث في 11 سبتمبر 2001، ومذكّرًا بأن الانسحاب من العراق الآن يعني التسبب في كارثة هناك!! إلا أن النصف الآخر من الصورة، والذي لم يتطرق إليه الرئيس الأمريكي بالطبع يكمن في الحقيقة التي تعمّد عدم ذكرها والتي تقول بأن الانسحاب الأمريكي من العراق الآن يعني أيضًا - وهذا هو الأهم - كارثة للولايات المتحدةالأمريكية نفسها ولمؤسسة الرئاسة فيها فعندما تحدث الرئيس بوش بما قاله، كان بيان الجيش الأمريكي يشير إلي أن عدد قتلاه في العراق قد ا رتفع منذ بداية الغزو في 2003 إلي 2610 جنديًا بالتمام والكمال، ناهيك عن الأرقام الفلكية للتكلفة النقدية لهذه الحرب غير المبررة، والتي لا يمكن لعاقل أن يتصور بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية قد شنتها فقط لإقامة حكومة ديمقراطية هناك ومن أجل تحقيق حلم الرئيس الأمريكي بنشر الديمقراطية ودعم الإصلاحيين في الشرق الأوسط وفقط! الحقيقة التي تملأ أعماق الرئيس بوش وأركان رئاسته، والتي تضغط بقوة علي ما يبدو في تصريحاته المتتالية وأحاديثه المتكررة في الآونة الأخيرة، والتي لم يستطع إخفاءها جاءت أخيرًا في خطب له أمام انصار حزبه في مدينة لانكستر بولاية بنسلفانيا، وفيه قال الرئيس بالحرف الواحد: "إن الرحيل قبل انجاز مهمة الولاياتالمتحدة سيؤدي إلي قيام دولة إرهابية يقصد العراق، تصوروا ذلك؟! في قلب الشرق الأوسط، تملك احتياطيًا ضخمًا من البترول وقد تسعي الشبكات الارهابية لاستخدامه - أي البترول - لإلحاق الأذي اقتصاديًا بالذين يؤمنون بالديمقرطية في العالم!! إذن فالمسألة بدت واضحة، ومبررات شن الحرب الظالمة ضد العراق وأهله، والتي تقال علي سبيل الاستهلاك وصرف الأنظار، ليست هي المبررات الحقيقية أنه البترول .. وأين؟ في دولة تعد الأكبر في حجم الاحتياطيات البترولية علي مستوي العالم! وبذلك سقطت الأقنعة، وتبين خطأ السياسة الأمنية الأمريكية في تعاملها مع ملف العراق الشائك، والذي تدمي أشواكه يوميًا حياة الآلاف من الجنود الأمريكيين الذين يتيهون الآن علي وجوههم محبطين مثل رئيسهم في فسيفساء العراق، الذي يهيم شوقا بتركيبته القبلية العشائرية، والمتمسك دومًا برأي مرجعياته الدينية. العراق في السياسة الأمنية الأمريكية مما لا شك فيه أن قرار الحرب علي العراق "أيًا كانت دوافعه الحقيقية" قد تم اتخاذه بالتأسيس علي مفهوم "الحرب الاجهاضية" التي تبنتها السياسة الأمنية الأمريكية بعد أحداث سبتمبر 2001، والتي تم تبنيها في سياق ذلك الظرف الاستثنائي في التاريخ الأمريكي والعالمي أيضًا، حيث اتسمت الاستراتيجية الأمنية الأمريكية منذ ذلك التاريخ بظهور توجه هجومي أمريكي صارخ علي الواقع الدولي، ظهر فيه تأثر تلك الاستراتيجية بأجواء الأزمة التي صيغت فيها، ولذلك لم يكن من الغريب ملاحظة تركيز جميع الوثائق الأمريكية المتعلقة بالأمن القومي علي مفهوم الحرب علي الارهاب باعتباره المفهوم المركزي للأمن القومي الأمريكي. وإذا كانت اتجاهات الرأي العام الأمريكي قد شكلت حالة قريبة من الاجماع علي أجندة الرئيس بوش للحرب علي الارهاب بشكل عام بعد 11 سبتمبر بما فيها حتي الحرب علي العراق، إلا أن تلك الاتجاهات قد أخذت في التغير بشكل دراماتيكي بعد ذلك، وخصوصا في ظل ملاحظة الأمريكيين لاضطراد حجم وقيمة التكاليف السياسية والعسكرية والمالية والبشرية لهذه الحرب الظالمة. وكشف استطلاع آخر، أجري في عام 2005، أن حوالي 58% من الذين شاركوا فيه يعارضون أساسًا مبدأ الضربات الاستباقية أو ما عرف بالحروب الاجهاضية، وفي استطلاع ثالث تم في 16 يوليه 2005، رأي الأغلبية - ولأول مرة - أن الرئيس بوش قد ضلل الشعب الأمريكي في الحرب، حيث أفاد نحو 50% من العينة البحثية، بأن إدارة بوش قد تعمدت تضليل الجمهور الأمريكي حول ما إذا كان صدام حسين لديه بالفعل أسلحة دمار شامل أم لا، كما رأت الأغلبية أيضًا، أن الادارة الأمريكية لم تكن مستعدة لإقامة حكومة ديمقراطية مستقرة في العراق، وأكد حوالي 32% أن الولاياتالمتحدة لا يمكن أن تكسب الحرب في العراق، كما أفاد نحو 21% بأن امريكا يمكن أن تكسب الحرب ولكنهم لا يعتقدون انها سوف تكسبها! أما النتائج الأكثر اهمية ودلالة، فقد تضمنها استطلاع أمريكي آخر اجري خلال الفترة "15 إلي 21 سبتمبر 2005" وفيه تبين أن الاغلبية قد رأت بأن بناء الديمقراطية لم يكن سببًا كافيًا للحرب في العراق "74%" وأن تجربة العراق قد جعلت الأمريكيين أقل تأييدًا لاستخدام القوة العسكرية لفرض الديمقراطية، كما أفاد 66% ممن تم استطلاعهم بوجود أضرار لسياسة نشر الديمقراطية بالقوة العسكرية، كذلك أظهرت آراء العينة عدم اقتناع الأمريكيين بزيادة الأمن مع زيادة عدد الدول الديمقراطية، كما انقسم الأمريكيون حول ما إذا كانت الديمقراطية تساهم في تقديم الدعم للإرهاب، أو ما إذا كانت الديمقراطيات أقل احتمالاً للدخول في حرب، أما بخصوص قضية دعم الديمقراطية فقد رأت الأغلبية أن مناط ذلك وإن كان يجب وروده كهدف في السياسة الخارجية الأمريكية، إلا انه لا يمثل الأولوية القصوي لهم، وإن السبيل المفضل لذلك يجب أن يبتعد عن الوسائل العقلية كوسيلة للضغط علي الدول. وفي استطلاع أحدث تم في شهر نوفمبر 2005، ذهب أغلبية المبحوثين عند سؤالهم عن أسباب خيبة الأمل العالمية من الولاياتالمتحدة، إلي أن الحرب علي العراق هي العامل الرئيسي المسئول عن ذلك "71% من الجمهور"، "78% من قيادات الرأي" كما عبرت الأغلبية عن اعتقادها بفشل فكرة الديمقراطية في المنطقة العربية، في حين عبر حوالي "52%" عن اعتقادهم بمبرر استخدام القوة العسكرية أحيانًا ضد دول قد تهدد أمريكا بشدة وإن لم نهاجمها.. أما اخر تلك الاستطلاعات والتي ظهرت نتائجها منذ أيام قليلة مضت، فقد بينت أن نحو 51% من الأمريكيين لا يعتقدون بوجود علاقة بين الحرب علي العراق من جهة، وما تبذله الإدارة الأمريكية من جهود لمكافحة الارهاب من جهة أخري، حيث أفاد نحو 32% فقط ممن جري استطلاعهم بوجود علاقة بين الحرب علي الارهاب والحرب ضد العراق، كما اعتبر 53% منهم أن الدخول في الحرب كان خطأ منذ البداية. هل فشلت امريكا في العراق؟ تضمنت افتتاحية مجلة السياسة الدولية في عددها الاخير "يوليو 2006" تحليلا دقيقا للاجابة عن هذا السؤال، وعن سؤال آخر حول مدي وصواب قرار غزو امريكا للعراق اساسا، وقد تناول ذلك التحليل استعراضا لنماذج فشل الولاياتالمتحدة في العراق، بما يؤكد ويكشف عن حجم المأزق الذي تعانيه الولاياتالمتحدة هناك. الذي يؤرق الرئيس بوش علي ما نعتقد، يكمن في مشاهدته اليومية لانهيار مشروعاته الشرق اوسطية علي اختلاف مسمياتها واشكالها، كما ان التورط الامريكي في العراق كان وسيظل امام عينيه كنموذج واضح لفقدان الهيبة التي سعي المحافظون الجدد بزعامته لتثبيتها واقعا في ميزان العلاقات الدولية، لذلك فإنه قد يكون الوقت مناسبا، كي تعيد الولاياتالمتحدة حساباتها في العراق وفي كامل المنطقة العربية، اذا كانت تريد بحق الحفاظ علي بعض ماء الوجه!