بعدما يقرب من ثلاث سنوات منذ الغزو الأمريكي للعراق، والمدعوم بخلفاء أمريكا الاجانب، وحلفائها المحليين العراقيين كذلك. تبدو أرض الرافدين وقد تخضبت بالدماء العراقية، كما سالت عليها انهار من الدماء "متعددة الجنسيات" وخصوصا الدماءالامريكية، والتي استباحها مهندسو الحرب في واشنطن، والذين توهموا أن العراق يمكن ان يكون لقمة سائغة يسهل تناولها وهضمها الا ان الذي حدث منذ الغزو الامريكي الاحمق للعراق، يؤكد علي ان البلدين قد عاشا معًا ثلاث سنوات من العذاب، فالعراق يبدو الآن في حالة هي الأقرب للفوضي الشاملة، كما تبدو المقاومة العراقية وكأنها تصرخ قائلة: "أنا الغريق، فما خوفي من البلل"؟، وذلك بعد ان اتت الحرب المجنونة علي حياة مئات الآلاف من المدنيين والمقاومين العراقيين وايضا من منتسبي قوات الشرطة والجيش العراقيين. اما فيما يتعلق بالجانب الامريكي، الذي يبدو كمن عاد اليه فجأة صوابه، بفعل حجم الخسائر البشرية والمالية والمعنوية الضخمة التي مُني بها، فليس من الصعب ملاحظة الاسقاطات التي تعكسها تصريحات القادة السياسيين والعسكريين، والتي تكاد نشم فيها رائحة فشل المشروع الامريكي بغزو العراق من اساسه، ونستطيع ان نلتمس ذلك فيما يلي: أولا: اعتراف كل من "ريتشارد بيرل"، وأندرسون سوليفن "وجورج ويل"، وهم معروفون كأبرز مهندسي حرب العراق، بأن الادارة الامريكية لم تعط الاهتمام الكافي لبحث مرحلة ما بعد الحرب، كما انها ارتكبت خطأ استراتيجيا ملفتا للنظر بعدم العمل علي ايجاد صيغة ملائمة للمشاركة مع العراقيين. ثانيا: اعتراف كثير من قادة الرأي في امريكا بأن الغزو الامريكي قد مثل درسا قاسيا لامريكا وللعالم ايضا، وبأن حالة الفوضي التي يعيشها العراق حاليا، هي نتيجة مباشرة لسوء التقدير الامريكي المبني علي غرور القوة والسذاجة معًا! ثالثا: تنامي الشعور بأن كل الذي أحدثته امريكا وباركته في العراق، والذي يتعلق اساسا بإجراء الانتخابات التشريعية والاستفتاء علي الدستور لم يؤديا بعد الي بلوغ العراق مرحلة الدولة المستقرة والحكومة المقبولة لدي كافة الاطراف العراقية. رابعًا: ان الغزو الامريكي للعراق لم يُحجم فوبيا الإرهاب في امريكا ذاتها، او علي مستوي العالم، بل ان العكس هو الصحيح، فإذا كانت امريكا قد غزت العراق لمحاربة الارهاب علي ارضه قبل ان يحاربها علي الارض الامريكية، فإنه بوسعنا القول الآن بأن خطر الارهاب كما تزعم امريكا قد زاد وتضخم الي حد كبير عنه قبل غزو العراق، ويذكر في هذا المجال ان مدير المخابرات الوطنية الامريكية "جون نيجرو بونتي"، قد اقر في شهادته امام لجنة خدمات الجيش بمجلس الشيوخ الامريكي، وذلك بخصوص التهديدات والتحديات التي تحيط بالولاياتالمتحدة حاليا، بأن الارهاب لازال يمثل التهديد الدائم لمواطني الولاياتالمتحدة، كما ان الذي يدور في العراق حاليا يمثل احد اهم خمسة تحديات رئيسية تواجه امريكا في القرن الحادي والعشرين! خامسًا: ملاحظة حالة الارتباك والتردد التي يعيشها القادة الامريكيون العسكريون، فبينما تؤكد تصريحات وزير الدفاع الامريكي علي ان الولاياتالمتحدة لن تُغير خططها الخاصة بتخفيض عدد او حجم قواتها في العراق، نجد ان تصريحات قائد القوات الامريكية في الشرق الاوسط، إنما تؤكد علي ان خطط الانسحاب التدريجي من العراق سوف تستمر برغم مسلسل العنف الطائفي الحادث هناك! ان اعادة قراءة الحدث الذي صدر بخصوص تقدير الموقف او الازمة العراقية الامريكية، "وخصوصا اذا جاءت هذه الشهادات من طرفين لهما وزنهما في هذا المجال"، قد تقضي بنا الي القراءة الصحيحة لما يجري هناك دون تهويل او تهوين، فالشاهد العراقي وهو الاستاذ عبد الزهرة الركابي، الكاتب السياسي البارز في العراق، يقول في شهادته: "لا مبالغة او تهويل او تضخيم اذا ما قلنا ان الاخفاق الامريكي في العراق يتضاعف يوما بعد آخر، والدليل هو ما مر يوم الا وقد تكبد فيه الامريكيون خسائر بشرية اصبحت اخبارها تتري عيانا في المشهد العراقي، وقبل ان يعلن عنها الجيش الامريكي رسميا في نطاقها الضيق او المحدود، بينما يعزف الجيش المذكور عن الاعتراف بالجزء الاكبر منها تماشيا مع سياسته التعتيمية التي تركز علي صيانة الجانب النفسائي والمعنوي من التأثير السلبي لتلك الخسائر علي افراد الجيش نفسه، وكذلك علي الرأي العام الامريكي، والذي بات يدرك مرارة المأزق التي اضحت تشرب منها الادارة الامريكية من جراء سياستها الخائبة في العراق!.. إن اشد ما يخشاه المعنيون في الجيش الامريكي هو انخفاض وتردي معنويات الجنود الامريكيين في العراق، ولاسيما بعد صدور تقرير الخبير العسكري الذي استعان به "البنتاجون" لتقييم احتلال العراق، وهو السيد "اندروكر يبنفتيش"، حيث حذر من ان انخفاض معنويات الجيش المثقل بالاعباء وتراجع الدعم الشعبي الامريكي للحرب، سيهددان قدرة الجيش وقوات مشاة البحرية "المارينز" علي الحفاظ علي عدد كاف من القوات لمواصلة الحرب في العراق، والوصول بها الي خاتمة ناجحة. اما الشاهد الامريكي علي الذي يدور في المشهد المأساوي العراقي، فهو السيد "ذبيجبنيور بريجينسكي" مستشار الامن القومي الامريكي في عهد الرئيس الامريكي الاسبق "جيمي كارتر" والذي جاءت شهادته في مؤلف المعنون "دراسة التاريخ"، في هذه الشهادة يقول "بريجينسكي": ان استراتيجية النصر او الهزيمة ليست سوي خيار استراتيجي خاطيء ومضلل، اما الخيار الواقعي والعملي الذي يمكن تبنيه فهو "ثابر دون ان تفوز.. وتوقف دون ان تخسر" ذلك ان النصر وفقا لتعريف الادارة الامريكية له والموافقين عليه فيها، هو اقامة ديمقراطية علمانية مستقرة وراسخة، في اطار دولة عراقية موحدة، يسبقها ويُمهد لها إنزال هزيمة عسكرية كاسحة بالتمرد من قبل مقاتلي الجيش الامريكي المدعوم بمقاتلي الجيش العراقي الوطني، الذي جري تدريبهم علي يد الضباط والجنرالات الامريكيين، ما ابعد تحقيق نصر كهذا، وما اصعب احرازه لكونه يتطلب عددا من القوات الامريكية يفوق بكثير اعدادها الحالية، كما يتطلب ان تحظي هذه القوات بتأييد المواطنين العراقيين لجهودها الرامية الي اخماد نار التمرد ومكافحته "يقصد بذلك المقاومة العراقية" اما الحقيقة الماثلة امام عيوننا اليوم، فهي ان حجم القوة الامريكية الموجودة في العراق، ليس بالحجم الكافي لسحق التمرد، ولا لإخماد نار الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة، والتي بدأت السنة لهيبها تستعر كما نري، والحقيقة ايضا ان هاتين المشكلتين متواصلتان تساعدهما في ظل وجود احتلال اجنبي بغيض في نظر العراقيين.. إن اصرار واشنطن علي احراز نصر حاسم ونهائي في ظل الظروف والاوضاع الراهنة شديدة التعقيد، لن يؤدي الا الي المزيد من الخسائر في المال والارواح، ناهيك بتزايد كراهية المسلمين لامريكا، وانحدار شرعيتها وصدقيتها وسمعتها الاخلاقية الي الحضيض! كما يفاضل الشاهد الامريكي بين خيارين لا ثالث لهما، الأول ويتضمن القبول بحقيقة التعقيد الشديد الذي تميز به الواقع العراقي في مرحلة ما بعد الرئيس المخلوع "صدام حسين" وذلك عبر انسحاب عسكري اجنبي "امريكي" سريع نسبيا، وهنا لابد ان يشمل مرحلة انتقالية لا مفر اثنائها من تصاعد الصراع السياسي الوطني، الي حين تتمكن القيادة والاغلبية العراقية معا، من ترتيب اوضاعها وتحديد مسار البلاد بأكملها في اتجاه الاستقرار والديمقراطية والوحدة الوطنية. اما البديل الثاني فهو يرمي الي استمرار الاحتلال العسكري الي امد غير محدود، تشبثا بأهداف وهمية مضللة، الامر الذي لن يكون بوسع الولاياتالمتحدة دعم استمراره، استنادا علي الشعارات الخاوية التي ترفعها حاليا. وذلك مثل: "جعل العراق جبهة مركزية للحرب العالمية المعلنة ضد الارهاب".. وينتهي المستشار الامريكي البارز في مجال الامن القومي الامريكي للقول بأن الخيار الواقعي والعملي والممكن يتمثل في انسحاب الولاياتالمتحدة عسكريا من العراق خلال العام الحالي 2006، فمثل هذا الانسحاب يسحب البساط من تحت اقدام التمرد العراقي ويدفع بمقاتليه إلي المشاركة في العملية السياسية، خشبة ان يستأثر التحالف الشيعي/ الكردي وحدة بمقاليد السلطة والحكم هناك، وان كان يري ضرورة وجود عسكري ما في المنطقة وخصوصا في المناطق الكردية تحديدا، باعتباره يمثل صمام امان يمكن ان يقف في وجه اي صعوب مفاجيء لنفوذ التمرد علي حد قوله. الا ان الشيء الخطير الذي ورد في شهادة "بريجنيسكي" وتقييمه للذي يجري في العراق حاليا، هو رؤيته الخاصة بإمكانية مشاركة الدول العربية والاسلامية نفسها في قوات لحفظ السلام هناك الامر الذي يسهل عملية الانسحاب العسكري الامريكي، ومن ثم وضع حد للاحتلال الامريكي القائم الآن، حيث سيكون لذلك علي حد قوله اثر ايجابي في ضمور حجم الكراهية لامريكا والاخذ اليوم في الاتساع علي امتداد المنطقة بأسرها في ظل الاحتلال الامريكي للعراق. واذا كان لنا ان نعلق علي شهادات الرجلين معا، فإننا وان كنا نتفق الي حد كبير مع ما ذهبا اليه، الا ان الذي يزعجنا بالتأكيد هو تصور امكانية ارسال قوات مصرية، حتي وان كانت للمساهمة او المشاركة مع قوات عربية او اسلامية اخري لحفظ السلام، او لتسهيل عملية انسحاب القوات الامريكية من العراق، فليس من المعقول او المقبول ان يدفع العرب والمسلمون ثمن الاخفاق الامريكي، وان يقاتل العربي اوالمسلم اخاه العراقي تحت أي ظرف، وعلي المحتل وحده ان يُسدد فاتورة طغيانه وتجبره، كما ان اهل العراق وحدهم هم الادري بشعابها. ما نود التنويه عنه اخيرا، هو الاشارة الي مصدر الشهادتين المذكورتين، حيث ضمهما العدد الاخير من مجلة "حوار العرب" والتي تصدر عن مؤسسة الفكر العربي شهريا، العدد (16) مارس 2006.