يعود الخلاف الدائر الآن في أوروبا حول المساهمة الأوروبية المحتملة في قوة حفظ السلام الدولية في لبنان، إلي غياب ما يكفي من الوضوح حول مهام القوة نفسها. يذكر هنا أن مجلس الأمن الدولي الذي أقرّ هذه القوة قد تأثر بالظروف والضغوط التي أحاطت بإصدار قراره ذاك، ومن هنا فإنه لو جري تطبيق القرار كما هو، فإنه حتماً آيل للفشل. وكان هذا السعي الدولي الحثيث وراء قرار وقف إطلاق النار، قد نشأ من المطالبة الدولية بوقف القتال المتبادل بين إسرائيل و"حزب الله". ولم يكن في نية إسرائيل ولا الولاياتالمتحدةالأمريكية في بادئ الأمر، أن تكلل هذه المطالب الدولية بالنجاح، بسبب تصديق كلتا الدولتين الحليفتين لأسطورة أن الوقف الفوري لإطلاق النار، سيقطع الطريق أمام عزم إسرائيل علي استئصال شأفة "حزب الله" من جذورها، وهو أمر ستفرح به غالبية اللبنانيين، حسبما زعمت الأسطورة التي جري تسريبها إلي ذهن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، عبر جنرالاته وقادته العسكريين. واقتناعاً منها بفكرة أن القوات الإسرائيلية لم تكن بحاجة سوي إلي القليل من الوقت لتنجز مهمتها تلك، ما كان من كوندوليزا رايس إلا أن أعاقت إصدار قرار من مجلس الأمن في بادئ الأمر، وذلك لمصلحة ضمان "وقف دائم" لإطلاق النار بين الطرفين علي حد زعمها! ولكن الذي حدث أن الدائرة دارت علي إسرائيل وجيشها في جنوبي لبنان، حين تمكن "حزب الله" من وقف التوغل الإسرائيلي إلي داخل الأراضي اللبنانية برياً. وبدلاً من أن يعرب اللبنانيون عن عرفانهم لإسرائيل -مثلما زعمت الأسطورة- سرعان ما تحول مقاتلو "حزب الله" إلي "أبطال" وطنيين في عيون كثير من اللبنانيين. وحينها هاج العالم وماج، وسرت الرعشة وقشعريرة الخوف إلي أقدام واشنطن التي اهتزت الأرض من تحتها. وفوجئ الجمهور الإسرائيلي باستمرار قصف الضواحي الشمالية من بلاده بالصواريخ التي يطلقها "حزب الله". وحينها سرعان ما بدا وقف إطلاق النار حلاً جيداً لا غبار عليه، بعد أن كان بعيداً وغير مقبول البتة بالنسبة لتل أبيب قبل أن يجتث "حزب الله"، وقبل أن يقتل زعيمه حسن نصرالله أو يلقي القبض عليه، ثم قبل أن يعاد الجنود الإسرائيليون المختطفون في جنوب لبنان وقطاع غزة إلي بلادهم دون قيد أو شرط مع ملاحظة أنهم لا يزالون مختطفين ! ولكن الذي حدث الآن هو إذعان إسرائيل لفكرة الانسحاب الجزئي من الأراضي اللبنانية، في مقابل نزع جزئي لأسلحة "حزب الله". وبين هذا وذاك انتبه "حزب الله" إلي أنه أبلي بلاءً حسناً في صموده أمام الزحف البري للقوات الإسرائيلية، مع ملاحظة أن هذا الجيش يعد القوة العسكرية الرابعة الضاربة عالمياً، خاصة وأنه لم يخطر ل"حزب الله" مطلقاً أنه وباختطافه لعدد محدود من الجنود الإسرائيليين لمبادلتهم بمئات الأسري اللبنانيين والفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، أنه قد أشعل نار حرب لا قبل له بها مع أسطورة القوة العسكرية الرابعة عالمياً هذه. نتيجة لهذا الأداء العسكري ل"حزب الله"، فإنه لم يكن بذاك القدر من الحماس لوقف إطلاق النار مع إسرائيل. وهذا ما دعا تل أبيب لتعزيز وحداتها وقواتها وتصعيد عملياتها بهدف معاقبة مقاتلي "حزب الله". غير أن الذي حدث هو أن معظم ضحايا ذلك الدمار والقصف البري والبحري والجوي كانوا من المدنيين اللبنانيين، وليس من مقاتلي "حزب الله"، بل طال ذلك الدمار البنية التحتية اللبنانية بأسرها. وهكذا دارت الحرب علي تل أبيب، بدلاً من "حزب الله". وفي تلك الظروف جاء قرار مجلس الأمن الدولي القاضي بوقف إطلاق النار، أعرج مغلول اليد. وكانت فرنسا هي من صاغ مسودته نيابة عن الرأي العام العالمي وعن لبنان، بينما شاركت في الصياغة ذاتها واشنطن إنابة عن تل أبيب. والنتيجة هي أن القرار صدر مثقلاً بوعود يصعب الوفاء بها عملياً، من بين تلك الوعود نصه علي وقف إسرائيل لعملياتها العسكرية وانسحابها من الأراضي اللبنانية، شريطة نشر قوة دولية مؤهلة بقيادة فرنسا في الخط الحدودي الفاصل بين إسرائيل ولبنان. وكان قد نشأ اعتقاد في أوساط الشارع الإسرائيلي وليس الحكومة الإسرائيلية بأي حال من الأحوال أنه "حزب الله" سيرغم علي التخلي عن أسلحته، حتي وإن استدعي ذلك استخدام القوة، وهو ما لم يتحقق. وفي تلك الأثناء قالت الحكومة اللبنانية إنها تتمتع بصلاحيات سيادية علي حدودها الجنوبية، وأعلنت استعدادها لنشر قواتها في ذلك الشريط الحدودي، جنباً إلي جنب مع القوة الدولية الصغيرة وفاقدة الحيلة، المرابطة أصلاً هناك. وعليه فقد تم التوصل إلي "اتفاق جنتلمان" طلب بموجبه من "حزب الله" نزع أسلحة مقاتليه والكف عن شن هجمات جديدة علي إسرائيل، أو التعرض للقوات الحكومية التي سيجري نشرها علي امتداد الشريط الحدودي الجنوبي. أما إسرائيل فقد عقدت العزم من جانبها علي التظاهر بمراقبتها لتنفيذ قرار وقف إطلاق النار علناً، بينما تواصل سراً إرسال جنودها وجواسيسها هنا وهناك إلي الجنوب اللبناني بحثاً عن قادة "حزب الله"، بغية تصفيتهم والتخلص منهم مرة واحدة وإلي الأبد. وبدلاً من إهدار الوقت والجهد سعياً وراء المخطط الإسرائيلي-الأمريكي، فإن علي أوروبا أن تنسق جهودها وتستنفر رأسمالها السياسي والاقتصادي والمالي، من أجل فرض التسوية السلمية ما بين إسرائيل والفلسطينيين، حتي وإن دعاها ذلك إلي مواجهة الولاياتالمتحدة وتحديها. كاتب ومحلل سياسي أمريكي عن "تريبيون ميديا سيرفيس"