علي رغم حديث الكل عن أهمية إرسال قوة دولية إلي لبنان الذي مزقته الحرب والعمليات العسكرية التي تستهدفه الآن، فإنه ما من أحد خطا خطوة عملية في هذا الاتجاه. والحقيقة أن القوة الدولية المقترحة لا تبدو حتي هذه اللحظة أكثر من مجرد سراب، لكونها تفتقر كلياً إلي الواقعية. وتحت كل الظروف وأفضلها، فإن من المؤكد أن يستغرق حشد وتنظيم ونشر قوة كهذه عدة أسابيع أو أشهرا. ولهذا السبب فإنه يجب عدم التعويل عليها في التخفيف العاجل من وطأة وضغوط الوضع الراهن. والشاهد أنه لا يوجد حتي الآن إجماع دولي علي إرسال قوة كهذه إلي لبنان. بل إن اللبنانيين أنفسهم ليسوا علي قناعة بأنه سيكون في وسع القوة هذه لعب دور مؤثر وفاعل في الواقع الذي يعانونه. أما إذا كان القصد من هذه القوة تجريد "حزب الله" من أسلحته، فإن من المؤكد أنها ستتعرض إلي هجوم مضاد فوري. وفيما لو حدث هذا، فإنه سوف يعيد إلي الأذهان ذكريات عام 1983 المؤلمة، الذي شهد سقوط عدد كبير من قتلي وضحايا القوة الدولية المتعددة الجنسيات، التي كانت قد أرسلت وقتئذ. وكانت الولاياتالمتحدة قد منيت بسقوط 241 من جنود المارينز إثر التفجيرات التي استهدفت ثكنات قواتها في لبنان، بينما خسرت فرنسا 58 من جنودها ومقاتليها. ولما كانت كل تلك الخسائر قد ترتبت عن الاستجابة الدولية للاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان في عام 1982، فإن من المؤكد أن يحذر المجتمع الدولي أي خطوة من شأنها تكرار تلك التجربة المريرة. وكان الجنرال ميشيل عون_ وهو قائد سابق للجيش اللبناني وزعيم حالي للتيار الوطني الحر- قد أعلن موقفه الصريح المعادي لنشر قوة متعددة الجنسيات في لبنان. ومن رأيه أن نشر قوة كهذه لن يؤدي إلا إلي إشعال نار الفتنة والحرب الطائفية في بلاده. وخلافاً لما هو عليه موقف بقية القادة المسيحيين الآخرين، فقد توصل الجنرال عون إلي عقد تحالف تكتيكي مع "حزب الله" في إطار مسعي مشترك منهما لنزع فتيل النزاعات الداخلية هناك. وعليه فإن من رأي ميشيل عون أن المجتمع الدولي ليس مطالباً بإرسال قوة متعددة الجنسيات، بقدر ما هو مطالب بإنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في بلاده. والمعضلة الرئيسية التي أعاقت تنفيذ مقترح إرسال القوة الدولية المتعددة الجنسيات، هي ارتهانها لوجهتي نظر جد متضاربتين ومتعارضتين بين كل من الولاياتالمتحدةالأمريكيةوفرنسا. فعلي الرغم من حديث الدولتين عن اقترابهما من التوصل إلي قرار بخصوص إرسال القوة الدولية المشار إليها، فإن الحقيقة هي أن كلاً من واشنطن وباريس، تكادان تشهدان مواجهة لا تقل شراسة ولا ضراوة عن تلك التي حدثت بينهما قبيل الغزو الأمريكي الأخير للعراق. فمن باب حرصها علي حماية وتأمين مصالح حليفتها إسرائيل، تأمل واشنطن في نشر قوة دولية متعددة الجنسيات في الجنوب اللبناني بأسرع ما يمكن. ترديداً لهذا الموقف وتأكيداً له، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت أنه لا سبيل لوقف إطلاق النار ما لم يتم نشر قوة دولية فعلياً علي الأرض. وفي تصريح له في صحيفة "فاينانشيال تايمز يوم الثالث من أغسطس الجاري، حدد أولمرت مهام هذه القوة بوضعها حداً للعنف الذي يستهدف المدنيين الإسرائيليين ونزع أسلحة تنظيم "حزب الله" الدموي، العميل لإيران_علي حد قوله-. كما يرغب أولمرت في أن تبادر الدول الأوروبية بنشر قوة كهذه، علي أن تشارك فيها بعض الدول العربية والإسلامية مثل تركيا ومصر والمملكة العربية السعودية. أما الذي يستشف من هذه الرغبة، فهو إما أن يكون أولمرت قد أقر ضمنياً عجز إسرائيل عن حماية حدودها بنفسها، ومن ثم تطلعه إلي المجتمع الدولي كي يقوم بهذه المهمة نيابة عنها. أو أن يكون القصد هو إبداء ذريعة تخول له إبقاء جنوده لأجل غير مسمي في الجنوب اللبناني. وعلي نقيض ذلك، فإن الموقف الفرنسي كما هو معبر عنه علي لسان الرئيس جاك شيراك ووزير خارجيته فيليب دوستو-بلازيه فيتلخص في قولهما إن كلاً من أمريكا وإسرائيل تضعان العربة أمام الحصان. والمقصود بهذا أنه ليس في الإمكان إرسال أي قوة دولية إلي لبنان، قبل الإعلان عن وقف لإطلاق النار، وقبل أن تتفق كافة أطراف النزاع الإسرائيلي اللبناني_ بما فيها "حزب الله"- علي التوصل إلي تسوية سياسية لهذا النزاع. وبعبارة أخري فإن الموقف الفرنسي يرمي إلي القول إنه في وسع القوة الدولية حفظ السلام، ولكنها ستعجز عن فرضه حتماً طالما أنها تحارب طرفاً من أطرافه نيابة عن الطرف الآخر. وتتلخص ميزة هذا الموقف الفرنسي في واقعيته. فالحقيقة أنه ما من دولة في العالم_ بما فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية- ستبدي حماساً لإرسال جنودها لخوض حرب بالوكالة عن إسرائيل. ولهذا السبب فإنه ليس متوقعاً أن تخطو فرنسا أي خطوة عملية في هذا الاتجاه ما لم تتوافر الظروف الملائمة لنشر القوة الدولية هذه. والمعلوم أن لفرنسا علاقاتها التاريخية الخاصة بلبنان. فهي التي أنشأت لبنان الكبري في عام 1920، إلي جانب علاقاتها التاريخية الأزلية مع الموارنة، وهي علاقات تضرب بجذورها في صميم الحملات الصليبية التي استهدفت هذه المنطقة من العالم. وشأنها شأن بقية الجزء الغالب والأعم من دول العالم، فقد استشاطت فرنسا غضباً من هذه الحملة الإسرائيلية المنظمة، العازمة علي تدمير البنية التحتية اللبنانية، إضافة لإزهاقها أرواح ما يقارب الألف لبناني، معظمهم من المدنيين، بمن فيهم عدد كبير من الأطفال، علاوة علي إصابة نحو 3000 آخرين. لكن وعلي رغم ما بين باريس وواشنطن من خلافات وصدوع، فإن الأولي تبدي حرصاً علي ألا يبلغ خلافها مع واشنطن حول ما يجري الآن في لبنان، إلي مدي ذلك الذي بلغته مواجهاتها المريرة الحادة مع واشنطن قبيل غزو الأخيرة للعراق في عام 2003. ولهذا السبب فقد انضمت باريس إلي موقف واشنطن في جلسة مجلس الأمن الدولي التي أصدرت القرار رقم 1559 القاضي بانسحاب سوريا من لبنان ونزع أسلحة الميليشيات اللبنانية. بيد أن العقبة الرئيسية أمام تسوية الأزمة اللبنانية هي دعم واشنطن المطلق لإسرائيل، والتباس فهم النزاع الشرق أوسطي لدي إدارة بوش. ولا سبيل لفض النزاع الدائر في كل من لبنان وفلسطين وإسرائيل، إلا بإعلان وقف فوري لإطلاق النار، يتلوه بدء مفاوضات سلمية بين كافة أطراف النزاع، بما فيها "حزب الله" وسوريا وإيران. وقد آن لإسرائيل أن تدرك أن القنابل ليست هي السبيل المفضي لاستقرارها وسلامها بين جيرانها الشرق أوسطيين.