إن أردت فهم إسرائيل المعاصرة ومستوي أدائها الحالي في حربها الدائرة علي "حزب الله"، فما عليك إلا قراءة قصة رجل الأعمال الشهير "وارين بافيه". فقبل أن يشعل "حزب الله" نيران هذه الحرب المشتعلة الآن ضد تل أبيب، كانت القصة الخبرية الأوسع رواجاً في إسرائيل، هي الصفقة التي أبرمها المستثمر العالمي الشهير "وارين بافيه" رئيس شركة "بركشير هاثاواي" في الخامس من مايو المنصرم. وتتلخص هذه الصفقة في شراء "بافيه" لنسبة 80 في المائة من أسهم شركة "إسكار لأعمال المعادن" الإسرائيلية بقيمة 4 مليارات دولار، علماً بأنها الصفقة التجارية الأولي من نوعها التي حاز بموجبها "بافيه" علي شركة أجنبية خارج حدود الولاياتالمتحدةالأمريكية. ووفقاً لمجلة "بيزنس ويك" فقد أصبح علي مالكي شركة "إسكار" سداد ضريبة مالية مقدارها مليار دولار للخزانة الإسرائيلية جراء إبرامهم لتلك الصفقة. ومما لا شك فيه أن هذه الإيرادات المالية الضخمة تعد زيادة مفاجئة وغير متوقعة للخزينة الإسرائيلية التي حققت سلفاً فائضاً مالياً قدره مليار دولار خلال العام المالي الحالي. وعليه فلم يكن غريباً أن تسوّد عناوين وصفحات الصحف الإسرائيلية ونشراتها الاقتصادية في مختلف وسائل الإعلام، بالكتابة عن مدي الامتياز الاقتصادي والمالي الذي حققته إسرائيل بحيازتها لشركة استثمارية خاصة تستقطب حماس مستثمر عالمي عملاق بحجم "بافيه". وبالنتيجة فقد سجلت بورصة تل أبيب أعلي نقاطها ومعدلاتها علي الإطلاق. وذلك هو المكان الذي كانت تقف فيه إسرائيل عشية شنها لحربها الجارية الآن علي "حزب الله". ولا ريب أنه قد عني لي شيئاً خاصاً لحظة زيارتي لتل أبيب بعد فترة وجيزة من اندلاع الحرب الأخيرة هذه. ولك أن تمعن النظر ملياً إلي وجوه الجنود الإسرائيليين الذين يقاتلون الآن في لبنان. فليس فيها ما ينم عن حماس ولا شعور بالنصر. وإن كنت من القراء الجيدين للملامح والوجوه، فلن يفوتك أن تقرأ فيها عبارة "لسنا راغبين في هذا... أي في حرب جديدة مع العرب". ولنذكر أن الجنود الإسرائيليين كانوا في غفوة قصيرة لحظة اندلاع الحرب الأخيرة هذه. ولعل هذا ما يفسر انقضاض "حزب الله" عليهم في كمين عسكري نصبه لهم، في حال أخذنا بأفضل التفسيرات لما حدث لهم هذه المرة. ولعل السبب الآخر هو عدم حماسهم لخوض الحرب أصلاً، طالما أن لهم حياة أفضل من الموت يعيشونها، وطالما أن اقتصاد بلادهم قادر علي تمكينهم من تحقيق تلك الحياة. ومن المؤسف حقاً هنا أن شركة "بافيه" التي ذكرناها آنفاً تقع في شمالي إسرائيل وأنه تعين عليها التوقف عن العمل والإنتاج مؤقتاً، بسبب الهجمات الصاروخية التي يشنها "حزب الله" علي الشمال الإسرائيلي. هذا ويحلم الشباب الإسرائيليون بأن يصبحوا مستثمرين، وأمام عيونهم تلك النماذج الناجحة من الإسرائيليين الذين رفعوا سمعة اقتصاد بلادهم إلي مؤشر "ناسداك" العالمي. وعلي نقيض ذلك تماماً، يحلم شباب "حزب الله" بأن يحققوا ذواتهم كاستشهاديين، وأمام عيونهم قدوة المقاتلين المتشددين الذين نجحوا في الانتقال بأرواحهم إلي العالم الآخر. وبالمقارنة ذاتها، فقد أمضت إسرائيل الست سنوات الماضية كلها في الإعداد للحظة نجاح "وارين بافيه" هذه، في حين أمضي "حزب الله" المدة ذاتها في الإعداد لهذه الحرب. وعلي حد قول المنظّر السياسي الإسرائيلي "يارون إزراحي"، فإن تل أبيب لم تكن مستعدة لهذه الحرب. ولذلك فقد حلت علي رؤوسنا مثلما تحل الشهب والنيازك. كيف لا وقد كان كل الحوار الدائر هنا قبل هذه الحرب ينصب حول الانسحاب"؟! ثم استطرد "إزراحي" قائلاً:: فقد انقض الجيش الإسرائيلي علي متطرفيه الاستيطانيين في قطاع غزة وأرغمهم علي مغادرته رغم أنفهم. ثم ها هي إسرائيل وقد انتخبت للتو رئيس وزراء قطع علي ناخبيه عهداً بالانسحاب الأحادي الجانب من أراضي الضفة الغربية! وفي نهاية المطاف فسوف تفعل إسرائيل كل ما عليها من أجل أن تسود. غير أن ما يثير القلق حقاً هو أن هذه الحرب تكاد تكون حرباً من أجل لا شيء وكل شيء تقريباً. فها هو "حزب الله" يعاود شن هجومه عليها، علي رغم مغادرتها لأراضي جنوب لبنان منذ أكثر من عقد من الزمان، لا لشيء سوي تبرير وجوده العسكري ولصرف الأنظار عن حليفته إيران. والمثير للحزن أيضاً اغتيال قائد عربي لبناني مثل رفيق الحريري الذي صعد إلي سدة الحكم اعتماداً علي حسه الحداثي الاستثماري. وكم كان يصلح الحريري نموذجاً يقود الأمة العربية علي طريق الحياة والاستثمار والحداثة لا إلي الموت والتطرف. وبعد أن اغتيل الحريري، فها هي الديمقراطية اللبنانية تُذبح الآن علي يد "حزب الله". نخلص إلي القول إذن إن هذه هي لحظة أخري من اللحظات التي يقبر فيها المستقبل العربي المشرق المستنير، في غياهب ظلمات الماضي وفي جوف ركامه. ولكن ليس علي إسرائيل أن تُقبر في المصير ذاته. بل عليها أن تسرع بوقف لإطلاق النار ونشر قوة دولية في جنوب لبنان، فضلاً عن انسحابها منه. وعليها أن تدرك أنه ليس في وسعها هزيمة "حزب الله" ولا ثنيه عن تكرار ما يفعله عن طريق توجيه ضربات موجعة تذكيرية له. وعليها أيضاً أن تكف عن إلحاق المزيد من الدمار بلبنان، ذلك أنه سيظل جارها المباشر ما أن يهمد الرصاص وتكف المدافع عن القصف. ولحظة انتصار إسرائيل، إنما هي تلك التي تعود فيها شركة "وارين بافيه" للإنتاج والعمل مجدداً، وليس لحظة إخراجها لحسن نصر الله من الحلبة العسكرية السياسية.