"لقد وجهت المحكمة العليا الأمريكية صفعة قوية لإدارة بوش بإعلانها في قضية حمدان ضد رامسفيلد عن بطلان وعدم شرعية اللجان العسكرية المكلفة بمحاكمة متهمي الحرب علي الإرهاب في سجن جوانتانامو". هكذا استهلت روزا باركس من الواشنطن بوست الأمريكية مقالها الافتتاحي تحت عنوان "هل ارتكبت إدارة بوش جرائم حرب" لتعلن عن ما يشبه نهاية زمن استئثار رئاسي بكافة أنواع السلطات التنفيذية وذلك من خلال الحكم التاريخي للمحكمة الدستورية الأمريكية العليا والتي جاء في قرارها أن عمل تلك اللجان يشكل انتهاكا لكل من القانون العسكري الأمريكي وكذلك لنصوص معاهدة جنيف الخاصة بالتعامل مع أسري الحرب ". غير أن الصفعة الأقوي في حقيقية الأمر يمثلها قرار المحكمة نفسها القائل بسريان المادة الثالثة من معاهدة جنيف علي سجناء ومعتقلي تنظيم القاعدة ومن شان هذا القرار أن يفتح الباب علي مصراعيه لتوجيه الاتهامات لعدد من كبار مسؤولي إدارة بوش تحت نصوص قانون الحرب الاتحادي . والتساؤل موضوع المقال ما قوة هذا القرار المستمدة من كيان المحكمة العليا وما هي تداعياته علي مرتكزات الساعة في أمريكيا وفي مقدمتها الحرب علي الإرهاب وما يمكن أن ينسحب أثره لاحقا علي قانون التفويض باستخدام القوة الذي اقره الكونجرس الأمريكي بعد هجمات 11/9.؟ بدأت القصة في التاسع والعشرين من يوينو المنصرم حينما اصدر القاضي جون بول ستيفنز بالمحكمة العليا حكما تاريخيا جاء فيه أن استخدام الهيئات العسكرية المشكلة خصيصا لمحاكمة المحتجزين في جوانتانامو غير دستوري وجاء في قرار المحكمة الذي وافقت عليه أغلبية خمسة أعضاء في حين عارضه ثلاثة من قضاة المحكمة أن هذه المحاكمات غير مشروعة وفقا للقانون العسكري الأمريكي ولاتفاقيات جنيف. وتعتبر المحكمة العليا للولايات المتحدةالأمريكية المحكمة النهائية للقوانين الاتحادية وقوانين الولايات وتعالج كافة القضايا سواء قامت بدراستها أم لم تقم المحكمة الابتدائية وتتكون من تسعة قضاة وثمانية قضاة مساعدين ورئيس لها يقوم بتحديد برامج دورتها ويطلق اسمه عليها. ويقوم الرئيس الأمريكي بتنصيب القضاة بموافقة مجلس الشيوخ ويتطلب اتخاذ القرار النهائي الخاص بإحدي القضايا حضور ستة قضاة علي الأقل بشرط موافقة خمسة منهم عليه ويطلق علي قرار المحكمة النهائي بخصوص قضية ما " رأي المحكمة ". وقد كان الرأي في قضية اليمني سالم حمدان السائق السابق لبن لادن ضد دونالد رامسفيلد هو أن هناك علي الأقل بندا واحدا في اتفاقيات جنيف ينطبق علي حمدان وكانت الحكومة الأمريكية قد دفعت بان اتفاقيات جنيف لا تنطبق علي المحتجزين الذين تم أسرهم نتيجة حرب الولاياتالمتحدة علي الإرهاب لان الجماعات الإرهابية ليست طرفا موقعا علي الاتفاقيات. وفي نهاية الأمر فان قرار المحكمة العليا يسقط حكما كانت قد أصدرته محكمة استئناف اتحادية بان الهيئات العسكرية الخاصة التي أنشأها الرئيس محاكم مؤهلة؟ هل تلقي بوش بناء علي ما تقدم صفعة قوية كما تقول روزا باركس؟ واقع الحال يشير إلي أن ذلك كذلك وان هناك تداعيات ابعد تمتد إلي جهة إدارته للحرب علي الإرهاب كما يؤكد ذلك جيم لوب من النيويورك تايمز والذي رأي في القرار هزيمة كبري لبوش لا سيما وان القاضي ستيفنز أيضا يرفض المزاعم القانونية للإدارة الأمريكية مؤكدا أن قانون التفويض باستخدام القوة العسكرية الذي اقره الكونجرس بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر علي نيويوركوواشنطن والمرتبط بموقعه باعتباره قائدا اعلي في أوقات الحرب قد أعطي بوش صلاحيات واسعة لتجاهل القوانين والاتفاقيات الموجودة. والمقطوع به أن هذه النظرة التفسيرية من قبل قاضي المحكمة العليا تهز أركان إدارة بوش في الأيام المقبلة بعد أن طال بها الانفراد بالقوة المطلقة كما تهز فكرة شمولية الحرب علي الإرهاب والتفويض المطلق الممنوح لبوش. والمؤكد كذلك أن هذا القرار قد لقي ارتياحا في الأوساط القانونية والإنسانية في الداخل الأمريكي . تقول " ايلسا ماسيمينو" مديرة فرع منظمة هيومان رايتس فرع واشنطن إن هذا انتصار كبير لسيادة القانون وللدور الذي تصوره واضعو الدستور للمحكمة العليا وهو أن تكون كابحا للسلطة التنفيذية وتضيف إن رفض الاعتماد علي التفويض باستخدام القوة العسكرية هو أمر في غاية الأهمية ويؤكد مجددا علي دور الكونجرس. فيما تري "بار برا اولشانسكي" نائب المدير القانوني لمركز الحقوق الدستورية والذي يمثل حوالي 400 معتقل مازالوا في جوانتانامو "إن المحكمة العليا تقول أن الرئيس لا يمكنه أن يذهب ليخلق عالما قانونيا يصنع فيه القوانين، إن هذا الحكم يمثل ضربة مذهلة لمفهوم السلطة التنفيذية المركزية. ومن تداعيات الحكم المستقبلية حسب بيان لمنظمة هيومان رايتس ووتش إن هذا الحكم لن ينطبق فقط علي معتقلي جوانتانامو ولكنه سينطبق علي جميع المعتقلين الذين تحتجزهم الولاياتالمتحدة في الحرب العالمية علي الإرهاب بمن فيهم هؤلاء الموجودون في جوانتانامو وفي القاعدة الجوية في باجرام بأفغانستان وكذلك المعتقلون الأشباح المحتجزون في سجون سرية. وهو نفس رأي "ايلسا ماسيمينو" التي قالت كذلك " إن قرار المحكمة سوف يكون له تأثيره علي سياسات الاعتقال والاستجواب لدي الولاياتالمتحدة ليس فقط في جوانتانامو ولكن في أماكن كثيرة كما أشارت إلي أن قرار المحكمة يأتي وسط صراع مستمر داخل الإدارة بشان القواعد التي تحكم الاستجوابات. هل تقتصر التداعيات علي ما تقدم فقط؟ في تقديري لا، فالحكم يعمل أيضا علة تقليص مقدرة الرئيس الأمريكي في تفسير القانون وفقا لهواه في أوقات الحرب فالمحكمة قالت إن سالم حمدان لا يمكن محاكمته من قبل واحدة من المحاكم العسكرية التي عينتها الإدارة خصيصا وتعيد المحكمة التأكيد بقوة علي الفصل بين السلطات في الولاياتالمتحدة وهذا يعني أن حمدان ومن المحتمل جميع السجناء الآخرين أل 450 في جوانتانامو تجب محاكمتهم بالوسائل العادية بما في ذلك وسائل المحاكم العسكرية الأمريكية التي يخضع لها الجنود الأمريكيون. وقد رأي البعض في القرار بجانب انه توبيخ شديد اللهجة لإدارة بوش فإنه تذكير بان الولاياتالمتحدةالأمريكية مازالت دولة قانون وبذلك أعطت المحكمة إثباتا عمليا علي استقلالية نظام العدالة الأمريكية إضافة إلي أن هناك معني أخر لقرار المحكمة العليا وهو تأييد الشرعية الدولية والقانون الدولي بما في ذلك اتفاقيات جنيف والتي سعت إدارة بوش باستمرار في الالتفاف حولها فهذه الاتفاقيات تحدد بالضبط أن الموقوفين مهما كانت أوصافهم يجب أن يتوافر لهم الحد الأدني من معايير العدالة وهذا يجرم غاية إدارة بوش بقرارها وصف سجناء جوانتانامو بأنهم محاربون أعداء غير شرعيين. ويبقي في المشهد التساؤل ماذا بعد القرار ؟هل سيذعن بوش لتنفيذه أم سيناور حتي لا تكون التداعيات سريعة ويمكن أن تطاله وإدارته اتهامات من عينة " جرائم الحرب "؟ الواضح أن هناك صراعا قد برز إلي العلن بين الإدارة البوشية والمحكمة العليا التي ترفض محاكمة المحتجزين عسكريا لا سيما بعد رفض بوش وإدارته التخلي عن فكرة المحاكمات العسكرية لمعتقلي جوانتانامو علي الرغم من قرار المحكمة وقد حاول بوش أن يظهر انه حام حمي أمريكا من جهة والممتثل لما ورد في "رأي المحكمة" من جهة ثانية ففي أول رد فعل له علي القرار قال " إنني أدرك أننا في حرب علي الإرهاب وانه تم القبض علي هؤلاء الأشخاص في ساحة المعركة، سأحمي الشعب وامتثل في نفس الوقت لقرار المحكمة العليا ". غير أن النوايا لحقيقة لبوش تجلت في تصريحات المتحدث باسم البيت الأبيض جون سنو الذي صرح بان " أحدا لن يحصل علي بطاقة اخرج من السجن حرا " وقد ظهرت محاولات التفاف بوش علي القرار عبر تصريحه بالقول " انه سيدرس إمكانية العمل مع الكونجرس لتقرير ما إذا كانت المحاكم العسكرية العادية سبيلا يمكن منح الناس " المحتجزين " من خلالها فرصة عرض قضيتهم والدفاع عن أنفسهم أم لا؟ بينما يقول احد المسؤولين الكبار في حكومة بوش " إن المحكمة لم تجد أي عائق دستوري يحول دون عمل الرئيس والكونجرس لتشكيل هيئات عسكرية خاصة تعمل كمحاكم ولم تنظر المحكمة العليا في هذه القضية في أمر الحق في احتجاز الأشخاص ضمن الحرب علي الإرهاب. ويضيف مسؤول وصفه مكتب الإعلام الخارجي للخارجية الأمريكية بأنه رفيع المستوي في الحكومة الأمريكية " إن القرار لا يوثر بأي شكل من الأشكال علي قدرة الرئيس بوصفه القائد الأعلي للقوات المسلحة علي احتجاز مقاتلين. ومما لاشك فيه أن التصريحات السابقة تطرح تساؤلا جديا وهو هل سيتمكن بوش من التوصل إلي صيغة مع الكونجرس الأمريكي يقر بها تشريعا خاصا بتلك المحاكم؟ وماذا إذا استطاع ذلك؟ هل في هذه الحالة ستنقسم روح أمريكا في داخلها أكثر مما هي منقسمة الآن ويصبح الصراع بين الكونجرس والرئاسة من جهة والمحكمة العليا من جهة ثانية؟ يصبح من الاستخفاف إذا قلنا إن بوش سيسلم زمام أمره لحكم المحكمة كما أن الكونجرس لن يكون بدوره لقمة سائغة في فم بوش وبخاصة مع دعوة كبار الأعضاء الديمقراطيين لمراجعة أوسع نطاقا لسلطات الرئيس الأمريكي جورج بوش خلال الحرب ولمعرفة ما إذا كان تجاوزها علي نحو غير مناسب في مجالات أخري أيضا. والشاهد انه إذا كان بوش يحتمي حتي الساعة في أغلبية جمهورية فان انتخابات نوفمبر المقبل ربما تكون موعدا حال فوز الديمقراطيين بالأغلبية لفتح أبواب جهنم علي إدارته وحديث إقالة بوش وجرائم الحرب خلف الباب رابضا؟