بوسع رجال السياسة القول إلي ما لا نهاية أنه "ليست لدينا أية نية للغرق في مستنقع غزة"، ولكن الصور تتحدث بنفسها. وهي تبرهن أن الجيش الإسرائيلي ينجر رغماً عنه عائداً إلي القطاع، بعد أقل من سنة علي قيامه بإخلائه ضمن خطة الفصل. وقد تعلم الجنود علي أجسادهم أن هذه العودة مترافقة مع معارك ضارية، بسبب كميات السلاح التي هي أكبر مما كان وقت أن تركنا المنطقة. وقد فاجأت شدة القتال الجيش الإسرائيلي، ولكن من دون أن يربط بذلك السؤال الأهم الذي يجب أن يسأل، وهو هل أن المعارك في الأزقة الضيقة تقرب الجيش الإسرائيلي من تحقيق غايات عملية "أمطار الصيف"، وهي استعادة جلعاد شاليت ووقف إطلاق صواريخ القسام؟ ومن المهم أن نفهم أن المساعي لتحقيق هاتين الغايتين تبذل بالتوازي، رغم انعدام الصلة بينهما. فالعملية التي بدأت أمس في المناطق الشمالية من قطاع غزة تتعلق فقط بمسألة صواريخ القسام. وقد جري التخطيط لها قبل أسابيع، وقبل عملية كيرم شالوم. وفي يوم الخميس الفائت كانت هناك نية فعلية للبدء بتنفيذها، إلا أن رئيس الحكومة أمر بتأجيلها. وفقط بعد سقوط صواريخ قسام هذا الأسبوع علي عسقلان أزيلت كل الكوابح وانطلقت الدبابات والمدرعات لتنفيذ العملية. والقوات التي دخلت إلي عمق خمسة إلي ستة كيلومترات في شمالي القطاع، اتجهت أساساً نحو منطقة العطاطرة. ولم يكن اختيار تلك المنطقة محض صدفة. فقد تم اختيارها لأنه من البساتين فيها أطلق الصاروخ الذي سقط في قلب عسقلان قبل ثلاثة أيام. وهذه البساتين لن تحمل من الآن فصاعدا أية ثمار. إذ ان جرافات الجيش الإسرائيلي تزيل هذه الأشجار عن وجه الأرض، كما تزيل المساحات المزروعة الأخري التي تشكل ستارا لخلايا مطلقي الصواريخ. والأهداف: تلقين أصحاب البساتين درساً يمنعهم في المستقبل من السماح لأحد بإطلاق الصواريخ من أرضه خوفاً من الثمن الباهظ الذي سيدفعه، وكذلك لجعل الأراضي المعدة لإطلاق الصواريخ مكشوفة يسهل مراقبتها، خاصة بعد إدخال منظومة تجريبية جديدة قريبا لمواجهة الصواريخ. ومع ذلك من الخطأ الافتراض أن القوات التي دخلت أمس إلي غزة ترمي فقط إلي حراثة الأرض. فمقاتلو غولاني وجفعاتي ورجال الدبابات، بغطاء قصف مدفعي لا يتوقف، جاءوا أولا وقبل كل شيء لاستفزاز الميدان. فالجيش بهذه الخطوة يدفع المخربين نحو معركة مع الجنود القابعين في آليات محصنة. وتتم مهاجمة المخربين بوسائل مختلفة، مثلا، وحسب ما بدا حتي الآن فإن نصف القتلي الفلسطينيين سقطوا بنيران من الجو لا بنيران القوات البرية. ومن الجائز أن حملة الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة سوف تستمر عدة أيام. فقد تم التخطيط لها بشكل يذكرنا بأنماط العمل ضد الإرهاب في الضفة الغربية. والهدف هو إظهار أن بوسع الجيش الدخول إلي أي مكان، ولكن من دون البقاء لفترة طويلة في أي عش دبابير. الدخول، العمل ومن ثم الخروج. وعلي المستوي الأعلي من المعركة، فإن الغاية من جملة العمليات التي ينفذها الجيش الإسرائيلي هي محاولة التوضيح للمخربين بلغة القوة، أنه من غير المجزي لهم إطلاق الصواريخ. لأنه في الوقت الذي تطلق فيه صواريخ معدودة علي تجمعات إسرائيلية، والتي بالكاد يمكن أن تلحق أي أذي، يكون الدمار في الجانب الفلسطيني أكبر بأضعاف مضاعفة وعدد المصابين في القتال هائل. ومع ذلك ليس مؤكداً أن الفلسطينيين سوف يستوعبون ما تحاول إسرائيل توضيحه لهم. فكل قتيل فلسطيني يضاف للقائمة، يلهب الخواطر ويزيد من روحهم القتالية. وهناك في الجيش الإسرائيلي نفسه من يشكك في قدرة عملية عسكرية بذاتها علي دفع الفصائل الفلسطينية، أو علي الأقل غالبيتها، نحو الإقرار بأن من الأفضل لها أن لا تطلق الصواريخ علي إسرائيل. وهم يدركون أن من الضروري إكمال الجهد العسكري بضغط دولي كبير علي السلطة الفلسطينية، بمساعدة من صديقتنا الولاياتالمتحدة وأيضا أوروبا، وبالحصار الاقتصادي علي القطاع والذي يوشك علي دخول أسبوعه الثالث. فلا يمكن وقف سقوط الصواريخ إلا إذا تم العثور علي عنوان يتحمل المسئولية الميدانية. ومع ذلك فإنه في الوقت الذي تتركز فيه الأنظار بشكل أساسي علي ما يجري في شمالي قطاع غزة، محظور علي المؤسسة الأمنية نسيان واجبها الأول: بذل كل الجهد من أجل إعادة جلعاد شاليت إلي بيته بأسرع وقت ممكن. فكل يوم يمر من دون إعادة جلعاد، يزيد الخطر علي حياته. والعملية الجارية ضد صواريخ القسام لا ينبغي أن تكون بديلا عن الجهد لإعادة الجندي المختطف.