هناك في إسرائيل قاعدة راسخة رغم أنها غير مكتوبة تقول بأنه إذا كنت تريد السلام مع العرب فعليك أن تظهر أنك الأشد وحشية في قتالهم. فليس مسموحاً لذوي النزعة اليسارية بين الإسرائيليين ممن تولوا إلي ما قبل سنوات قيادة الدولة العبرية وأجهزتها الحديث عن السلام من دون إظهار مدي تلطخ أياديهم بدماء العرب. ومن مراجعة التاريخ السياسي والعسكري الإسرائيلي تظهر هذه الحقيقة دامغة بشكل جلي. ففي حرب أكتوبر كان القادة العسكريون من أبناء الكيبوتسات أو المنتمين إلي أحزاب يسارية الأشد دعوة إلي الضرب بشدة علي أيدي العرب مدنيين وعسكريين. وقد قدم الشهر الأخير نموذجاً جديداً، رغم أنه غير فريد، لتأكيد هذه الحقيقة. ويتمثل هذا النموذج بشكل واضح في شخصية وزير الدفاع الإسرائيلي عمير بيرتس الذي بقي حتي توليه هذا المنصب واحداً من أبرز دعاة السلام مع الفلسطينيين في الحلبة السياسية الإسرائيلية. وما إن تولي وزارة الدفاع حتي غدت آلة القتل العسكرية الإسرائيلية تعيش واحدة من أشد عهودها وحشية. ففي عهد عمير بيرتس تقلص مدي الأمان في قواعد إطلاق قذائف المدفعية من 300 إلي مئة متر فقط من البيوت الفلسطينية. وفي عهده أيضا صدر القرار باستهداف المناطق المأهولة بالقصف المدفعي "شرط أن يسبق ذلك إنذار" المدنيين الفلسطينيين. وفي عهده كذلك لم يعد هاجس الخشية من إصابة مدنيين عن طريق الجو يحول دون الطيارين الإسرائيليين وقتل ثمانية أبرياء إن كان في ذلك ما يقود إلي قتل أحد المطلوبين. ومع ذلك فإن بيرتس "صاحب النزعة الإنسانية" وبعد أن رأي نتائج فعل القذائف التي صادق علي إطلاقها وكيف أنها أودت بحياة عائلة غالية بكاملها علي شاطئ غزة، أمر بتجميد القصف المدفعي مؤقتاً. وكان يقصد التوقف للحظة لمجابهة الإدانة الدولية أو البحث عن سبل للخروج من دائرة الصورة البشعة التي سقطت فيها إسرائيل جراء هذا القصف. ولكن هذا القرار اللفظي لم يرق لعميرام متسناع، زعيم حزب العمل السابق، الذي لا يقل "يسارية" عن زعيم العمل الحالي. فقد أدان متسناع قرار بيرتس لأنه في الحرب كما في الحرب ينبغي مواصلة الضرب لا التوقف. ف"اليساري" من النمط العمالي الإسرائيلي، علي شاكلة كل من بيرتس ومتسناع، لا يتورع عن إظهار مقدار تشدده كلما تعلق الأمر بضرب العرب. فاليمين الإسرائيلي ليس من خلق أجواء التشدد هذه بقدر ما كانت الوحشية نزعة مهيمنة علي أداء اليسار الذي سيطر تاريخياً علي الأرض والعمل ونفذ ليس فقط المجازر وعمليات الطرد الجماعي بل صادر وطناً بكامله. وما الدور الذي يقوم به اليمين في هذا السياق إلا محاولة للبرهان علي أنه لا يقل وحشية. ومع ذلك فإن هناك في إسرائيل من يعتقدون بأنه في عهد عمير بيرتس تجمعت عدة عوامل لإظهار هذا القدر من الوحشية. فللمرة الأولي يجتمع في إسرائيل رئيس وزراء ووزير دفاع يفتقران إلي الخبرة العسكرية مع هيئة أركان تحاول إثبات قدراتها في ظروف تسامح كلي مع جرائم الحرب بفضل الهيمنة الأمريكية. وليس صدفة أنه في موازاة الانتقادات التي أطلقتها جماعات ضيقة من اليسار المتطرف ضد سلوكيات بيرتس، انبري للدفاع عنه عدد من كبار المثقفين اليساريين ممن يمكن تسميتهم ب"اليسار المعتدل". فقد رأي هؤلاء في الحملة علي بيرتس إدانة ليس فقط لمنطقهم وإنما، ربما، لكل تاريخهم. فسارع أمنون دنكنر في معاريف للدفاع عن الحق المقدس في "الدفاع الإسرائيلي عن الذات" حتي لو كان الضحايا مدنيين فلسطينيين. كما انبري يارون لندن في يديعوت أحرونوت لتبيان أخطاء من تظاهروا أو وقعوا علي عريضة يطالبون فيها بيرتس بالوفاء ل"مبادئه وشعاراته". غير أنه من دون ريب ثمة من يري في أداء بيرتس الوحشي ذروة الإنسانية. فهو من خلال أوامره بتكثيف المعركة ضد الفلسطينيين إنما يرمي إلي تسريع تهدئتهم ودفعهم للقبول بالاشتراطات الإسرائيلية مما يقلل من حجم الخسائر "في صفوف الجانبين". وبيرتس في ذلك مخلص أشد الإخلاص لنظريات اليسار الإسرائيلي في الحرب التي قامت علي الضربات الوقائية ونقل المعركة إلي أرض العدو والأهم من هذا وذاك ترسيخ قدرة الردع. فالردع يعني أولا وقبل كل شيء منع العرب من التفكير، مجرد التفكير، بمقارعة إسرائيل أو التصدي لها. ولذلك توسعت الهجمة المدفعية والصاروخية الإسرائيلية ضد قطاع غزة وتعززت مساعي القوات الخاصة في اجتياح الأحياء والبلدات في الضفة الغربية. ولكن يقف في خلفية كل ذلك علي الدوام رغبة جارفة في تعزيز الردع الذي بات يتركز هذه الأيام حول الاغتيالات. وحسب المراسل العسكري لصحيفة يديعوت، أليكس فيشمان، فإن الاغتيالات وصولا إلي "إعدام قيادة حماس" تحولت إلي وسيلة مركزية في الحرب النفسية التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين خلال الأزمة الأخيرة. يبدو أن عمير بيرتس، كما سلفه في الوزارة ورئاسة حزب العمل شمعون بيريس، يشددان التأكيد علي القاعدة: كلما وصل مدني إلي وزارة الدفاع كان عليه أن يثبت للعسكريين أنه ليس أقل دموية منهم إن تعلق الأمر بدماء العرب والفلسطينيين.