يري المدافعون عن أطروحة اللوبي الصهيوني أن سياسة الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط لا تخدم مصلحتها ولا أمنها القومي، وأنها تختط هذا النهج بسبب اللوبي الصهيوني الذي نجح في أن يجعل الحفاظ علي أمن الدولة الصهيونية مفتاح السياسة الخارجية الأمريكية، وقد أنجز اللوبي الصهيوني هدفه هذا من خلال وسائل الإعلام والرأي العام وتقديم الدعم المالي للمرشحين لانتخابات الرئاسة الأمريكية والكونجرس. وقد ركز الأستاذان "جون ميرشايمر" و"ستيفن وولت" في بحثهما الذي أشرنا إليه الأسبوع الماضي علي فكرة "المصلحة" في تفسير العلاقة الخاصة بين إسرائيل والولاياتالمتحدة. وخلُصا إلي أن التحيز الأمريكي الكامل إلي إسرائيل قد أضر ضرراً بالغاً بمصلحة الولاياتالمتحدة نفسها. وأن اللوبي الإسرائيلي يحاول أن يوهم الجميع بأن مصالح البلدين متطابقة، وأنهما يتعرضان معاً لنفس التهديدات الآتية من العالَمَين العربي والإسلامي. ولكن هل مفهوم "المصلحة الاستراتيجية" مفهوم بسيط أو عقلاني؟ هل يمكن النظر إليه من الخارج، بطريقة موضوعية أم أن المسألة أكثر تركيباً؟ ابتداءً، لابد من الاعتراف بأن عملية اتخاذ القرار السياسي في العالم الغربي تتم بشكل موضوعي ورشيد من خلال مؤسسات يديرها علماء متخصصون (تكنوقراط) بطريقة "رشيدة"، بمعني أنها تتبع إجراءات معروفة ومحددة لا تخضع للأهواء الشخصية، ولذا لا يتخذ القرار إلا بعد توفير المعلومات اللازمة وإشراك المستشارين والمتخصصين. ثم بعد ذلك تتم عملية موازنات صعبة ودقيقة بشأن حسابات المكسب والخسارة وجدوي القرار وقوة العدو ونقاط ضعفه. ولكن، إذا كان التكنوقراط يتخذون القرار حسب إجراءات رشيدة ومقاييس موضوعية ومعايير محسوبة تضمن توظيف الوسائل علي أحسن وجه في خدمة الأهداف، فإن الأهداف أو المصلحة القومية أو الاستراتيجية أو مفهوم الأمن القومي لا تحددها اللجان الفنية، فمثل هذه الأهداف تسبق أي دراسة فنية إجرائية وهي تشكل جزءاً من العقد الاجتماعي الذي يستند إليه المجتمع ككل وتستمد النخبة الحاكمة شرعيتها من محاولتها تحقيق هذه الأهداف، التي تتحدد من خلال المرجعية النهائية للمجتمع. وحينما نتحدث عن المرجعية النهائية، فنحن لا نتحدث عن النشاط السياسي والاقتصادي بالمعني المباشر، وإنما نتحدث عن الأساس الفلسفي والمعرفي الذي يستند إليه العَقْدُ الاجتماعي الذي يدور المجتمع في إطاره. فلكل مجتمع عقد اجتماعي، وكل عَقْد اجتماعي يستند إلي مجموعة من المقولات القَبْلية، يستمدها المجتمع ليس من العالم الطبيعي أو قوانين المادة أو حتي قوانين العقل، وإنما من نسق حضاري وقيمي وأخلاقي قَبْلي. إن المرجعية النهائية هي "الأفكار القبْلية" apriori أي المفاهيم والافتراضات الأساسية التي يؤمن بها الإنسان والتي تسبق عملية الإدراك والرصد والتحليل والتقييم، ويشار إليها بالإنجليزية بعبارة "ما قبل الفهم" pre-understanding. هذه الأفكار القبلية التي تسبق الفهم ليست نتاج تجربة سابقة وإنما نتاج نموذج حاكم (مرجعية نهائية) يستبطنها الإنسان في طفولته بدون وعي فتتغلغل في وعيه وتحدد إدراكه. ولا يمكن لأي مجتمع أن يحدد توجهه وأولوياته بدون المرجعية النهائية، ولا يمكن أن يسير أموره بطريقة تتفق مع مصالح أعضاء هذا المجتمع كما حددوها لأنفسهم أو كما حددتها النخبة الحاكمة. فبدون مرجعية نهائية سيفتقد المجتمع المعايير التي يمكن أن يحكم بها علي ما يحيط به من ظواهر وما يقع له من أحداث، من أبسطها إلي أكثرها تعقيداً. إن المصلحة الاستراتيجية التي تتحدد في إطار المرجعية النهائية ليست مسألة بسيطة يمكن تحديدها موضوعياً ورياضياً وبشكل إجرائي غير شخصي، فرؤية أعضاء النخبة الحاكمة لمصالحهم، والمصالح الفعلية التي يحاولون الحفاظ عليها، والإطار الرمزي الذي يدركون من خلاله هذه المصالح، والعقيدة السياسية والدينية التي تستند إليها شرعية النخبة، تساهم كلها، بشكل أو بآخر، في تحديد هذه المصلحة. فما يري أعضاء النخبة أنه مصلحة الدولة العليا قد يكون مصلحتهم هم كجماعة أو طبقة ولا يمثل بالضرورة مصالح الدولة ككل أو صالح أغلبية أعضاء المجتمع. وما قد يكون رشيداً من وجهة نظر إنسانية عامة قد لا يكون رشيداً من وجهة نظر أصحاب القرار.