لا شك أن فيلم "شفرة دافنشي" هو من بين أهم الأفلام التي تسببت في إثارة ضخمة جداً من الجدل في الحياة الثقافية والسياسية والدينية في مصر. وهو جدل لا يعود للإبداع الفني للفيلم؛ بقدر ما يعود إلي اللغط الذي آثاره حول زواج السيد المسيح من مريم المجدلية ونسله وقضية الأنثي المقدسة. هذا الفيلم المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه لدان براون، والذي تخيل فيها ان السيد المسيح قد تزوج من مريم المجدلية وأنجب منها. والطريف أن صاحب الرواية محل الجدل قد اختار دافنشي علي وجه الخصوص لأنه صاحب أشهر لوحة فنية للعشاء الأخير.. تلك اللوحة التي حملت الكثير من الرموز التي حاول صاحب الرواية أن يؤكدها ويدلل عليها ويفسرها من وجهة نظره. وجدير بالذكر هنا، إن ليوناردو دافنشي.. هذا الفنان العبقري غريب الأطوار هو صاحب أهم اللوحات الفنية التي عبرت وجسدت العديد من الوقائع المسيحية كما أن السمة العامة في رسوماته تحمل قدرا لا بأس به من (الرمزية). وفي الوقت نفسه كان ليوناردو دافنشي علي خلاف دائم ومستمر مع الكنيسة. لقد تناول الفيلم موضوعات وقضايا شائكة تتعلق بجوهر الدين المسيحي وعقيدته من خلال مدخل بوليسي لرواية تقترب من الخيال.. وهو فيلم يحمل سمات السينما الأمريكية في الإبهار بكل معاني الكلمة، بالإضافة لمحاولة التأكيد علي حقيقة الفيلم من خلال الرجوع للتاريخ القديم والرموز والوثائق، وما يتبع ذلك من استنتاجات تميل إلي حد (التلفيق) للأحداث التاريخية بقدر أكبر مما يميل إلي صحتها ودقتها. كما أنه يقدم رؤية لحياة السيد المسيح تتعارض مع ما يؤمن به كافة المسيحيين في العالم.. بغض النظر عن طوائفهم. وهو ما أدي إلي حشد ديني في مصر من الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية.. وهو الحشد الذي أسفر عن صدور بيان (نشرته جريدة الأهرام في 31 مايو الماضي) يؤكد إن الفيلم يزيف التاريخ وعلم الآثار هو موقف إيجابي تفاعلي واضح ومباشر. غير أنني أختلف مع البعض من رجال الدين المسيحي الذين قرروا تحريم عرض الفيلم. وبالطبع، فإن هذا الاختلاف لا ينطلق من دعوة ترويجية لمشاهدة الفيلم.. بقدر ما هو دعوة لحرية التفكير والإبداع. هذه مقدمة لا بد منها قبل أن نتطرق لجانب آخر مهمل في هذه القضية الشائكة.. آلا وهي حرية الفكر والإبداع وعدم المصادرة والوصاية. وهو ما يهمني أكثر علي اعتبار اننا من غير المتخصصين في النقد الفني. إننا لا نميل إلي حد بعيد بقبول نظرية المؤامرة علينا في أن الفيلم له توجه صهيوني.. تلك النظرية التي دائماً ما تضعنا في دائرة الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة. غير أن رد الفعل من بعض _ وليس كل - رجال الدين المسيحي أخذ شكل التطرف. وبدون شك، فان هذا الأمر هو بمثابة (عدوي) لفيروس تقييد حرية الفكر والإبداع لأن الدراما تقوم علي تقديم نماذج من البشر بما فيهم من إيجابيات وسلبيات باحترام الرأي والرأي المغاير، دون أن يكفر طرف الطرف الثاني، وينتهي به المطاف في المحكمة للدفاع عن نفسه في قضية حسبة أو غير ذلك.. بعد أن تبدلت الأدوار، واستعار رجال الدين في مصر دور أهل الاختصاص، وقاموا بتنصيب أنفسهم نقاد دراما من العيار الثقيل. أضف إلي هذا ظاهرة حق الوصاية علي الأقباط من خلال بعض المراكز أو بعض المحامين الذين يروجون لأنفسهم.. بقيامهم برفع دعوي قضائية ضد كل من يتعرض للديانة المسيحية في إبداعه. وعلي الرغم من أن شيوخ الحسبة لهم باع طويل في مصادرة الفكر والإبداع الذي يتعارض مع المقدسات من وجهة نظرهم، ومن ذلك موقفهم من رواية "أولاد حارتنا" للأديب القدير نجيب محفوظ صاحب جائزة نوبل في الأدب، والتي يتم التعامل معها.. ضمن قائمة المصادرات والمحظورات.. رغم أن "أولاد حارتنا" كان يمكن أن تقرأ بطريقة أكثر هدوءاً كما قدمها الصديق روبير الفارس في الفترة الأخيرة من خلال كتابه الهام "رؤية مسيحية لرواية أولاد حارتنا" حيث قدم للمرة الأولي رؤية للبعد المسيحي للرواية. إن ما نخشاه أن يسير الكهنة والقساوسة علي الطريق نفسه لشيوخ الحسبة.. ودلالة ذلك ان البعض منهم يطالب الرقابة بعرض كل ما يتعلق بالدين المسيحي علي لجنة من الكنيسة لتدلي برأيها.. لمراجعته وتعديله وإقراره أو الاعتراض عليه، وذلك كما يتم مع الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية فيما يتعلق بالدين الإسلامي. وهو تكرار لطلب سابق حدث مع مسلسل "أوان الورد" لمؤلفه وحيد حامد ومخرجه سمير سيف سنة 2000، ولفيلم "بحب السيما" من بعده، بالإضافة للسجال الضخم الذي أثير مؤخراً حول فيلم "المسيح" في الفترة الأخيرة. ونتساءل: هل عرض فيلم "شفرة دافنشي" سيؤثر علي مكانة الديانة المسيحية وهيبتها؟. أم إن المصادرة والتحريم هي التي ستؤثر عليها؟!!. إن القاعدة الشعبية المعروفة (إن الممنوع.. مرغوب)، وبناء عليه فإن المطالبة بعدم عرض الفيلم سيحفز أكثر وأكثر علي مشاهدته واقتناء نسخة منه. ولقد كنت أتصور أن تقوم الكنائس بعد إصدارها للبيان المذكور بحملة توعية إعلامية ضخمة مصاحبة لعرض الفيلم بداية من الندوات والمؤتمرات، ومروراً بالمقالات والدراسات النقدية والكتب والنبذات، وصولاً إلي البرامج التليفزيونية علي القنوات الفضائية. وبهذا الشكل، تركنا للعمل الإبداعي حريته، وفي الوقت نفسه فندنا ما يروج له علي أساس معلوماتي ومن خلال أسانيد تاريخية تؤكد وجهة النظر المضادة لما يقدمه الفيلم. يا سادة، لا يجوز أن نطالب بالدولة المدنية. ونطالب بالدولة التي يتم فصل الدين فيها عن الدولة مع التأكيد علي احترام الدين وتقديره. وفي الوقت نفسه عند اختيار هذا المطلب.. نعود للوراء بما يكفي لإعادة تشكيل محاكم تفتيش علي الأعمال وعلي الأفكار، بل وعلي (العقول) أيضاً.