طوال خمس سنوات كان غيورا ايلاند المسئول عن التفكير حول جسر القيادة العليا الإسرائيلية، سواء من خلال منصبه كرئيس لقسم التخطيط أو إبان رئاسته لمجلس الأمن القومي، كان ايلاند مسئولا عن القضايا الاستراتيجية المركزية الماثلة أمام إسرائيل، هو رافق السياسيين والقادة وقام بإعداد أعمال الطواقم من أجلهم وشاهدهم عن كثب خلال اتخاذهم للقرارات المهمة في العقد الأخير، لذلك تعتبر الاستنتاجات الصعبة التي توصل إليها بصدد طريقة اتخاذ القرارات وممارسة القيادة السياسية الأمنية في إسرائيل، مقلقة للغاية. ايلاند يشير إلي حقيقة مثيرة: كل رئيس حكومة بادر إلي خطوة سياسية في العقد الأخير انجرف مع العملية نحو أماكن لم يكن يخطط للوصول إليها، بيجن لم يفكر حتي بالتنازل عن كل سيناء وإقامة الوطن الفلسطيني، أما رابين فلم يخطر بباله أن يقيم دولة عرفاتية علي أرض الواقع، وباراك لم يفكر بالموافقة علي التنازل عن 95% من أراضي الضفة الغربية وجبل الهيكل (الحرم). حسب تقدير المستشار السابق للأمن القومي، شارون أيضا لم يفكر بأن تتحول الخطوة المحدودة أحادية الجانب التي بادر إليها إلي خطوة أحادية شاملة، الاستراتيجية أحادية الجانب لم تكن أبدا مقبولة علي شارون، حسب ادعاء ايلاند، لو كان شارون قد بقي رئيسا للوزراء لما كان ليتوجه نحو الانطواء حسب طراز أولمرت، أيضا في أيامه الأخيرة اعتبر الانسحاب إلي حدود يونيو في نظر شارون كارثة محدقة. بذلك يعتبر النمط المتجسد وفق روية ايلاند مثيرا للاهتمام: رؤساء الوزراء في إسرائيل يقومون واحدا تلو الآخر بإخراج المارد من القمقم معتقدين أنهم سيتمكنون من السيطرة عليه وتدجينه، ولكن سرعان ما يكتشفون أنه قد هيمن عليهم وبدأ بتدجينهم، ما اعتبر وفقا لذلك مسألة قابلة للتغيير تبين فيما بعد أنه عصي علي ذلك، ما خُطط له ليكون خطوة محدودة يتحول إلي خطوة شاملة، منذ اللحظة التي تخرج فيها السفينة من الميناء من دون بوصلة أو هدف واضح أو خريطة ملائمة تصف المحيط بدقة تبدأ التيارات القوية في الواقع الدولي بالتلاعب فيها كما تشاء، هي تستخف بكل قائد إسرائيلي دوري وتجرف سفينته نحو أماكن بعيدة وخطيرة، لدي ايلاند تفسير لسبب تكرار نمط الفشل السياسي الإسرائيلي لنفسه: لأن إسرائيل لا تملك منظومة مرتبة للإدارة الاستراتيجية، ليس هناك نظام حسب قوله، وليس هناك تحقق وفحص انتقادي للافتراضات الأساسية، ليس هناك تحديد منهجي للأهداف والغايات، هناك اعتماد مفرط علي الحدس والفرضيات، وهناك ميل قوي للخطوات التلقائية العفوية والظرفية، ليست هناك أية محاولة للتخطيط من النهاية حتي البداية، بل بالعكس، الضغط هو نحو الوصول بسرعة كبيرة إلي النهاية من دون إهدار وقت ثمين علي التفكير المسبق. ما هي النتيجة؟ منظومة صناعة القرار غريبة بالنسبة لتعريف وتحديد فك الارتباط، غياب مطبق لسياسة اتخاذ القرار بصدد إعلان الانطواء، فشل سياسي شديد في مواجهة المشروع النووي الإيراني، مفاجأة حماس وتجاهل مغزاها، دولة لا تُدار كدولة وإنما تُدار بصورة عشوائية، دولة تُدار كل شركة تجارية متوسطة المستوي فيها بصورة مسئولة أكثر من الدولة نفسها. الاستنتاج واضح: القانون الأساسي للغاية الإسرائيلية الفلسطينية هو أن الانسحاب الإسرائيلي لا يكبح الصراع وإما يزيد من حدته، بما أن الانسحاب الإسرائيلي يفسر من قبل الفلسطينيين كاستسلام، ويزيد من نهمهم لتحقيق استسلام آخر، النتيجة ليست استقرار منشودا وإنما عنفا متزايدا قد يكون قاتلا وفتاكا في ظروف إنهاء الاحتلال. ايلاند ليس الأول الذي يتفوه بهذه الأمور الانتقادية، فقد سبقه افرايم هليفي، ومن قبله كان عوزي ديان، ومن قبل ديان سمعنا أغلبية الأشخاص أصحاب مهمة التفكير الذين سبقوهم علي جسر القيادة العليا الإسرائيلية، ولكن الأيام ليست أياما عادية، القرارات التي ستضطر إسرائيل إلي اتخاذها في السنة القريبة ليست قرارات روتينية وإنما هي قرارات مصيرية لم تُقدم إسرائيل علي مثلها منذ أن اتخذ قرارا ديمونا قبل نصف قرن، لذلك ليس من الممكن في هذه المرة الانتقال إلي جذول الأعمال العادي والمرور مرور الكرام بعد شهادة الإنهاء الصعبة التي أدلي بها رئيس مجلس الأمن القومي أمامنا، أقواله تستوجب الاهتمام والنقاش، هي تلزم بإجراء نقاش جماهيري وتوضيح وتعمق واستخلاص للعبر. ايهود أولمرت ويورام توربوفيتش سمحا لموظف دولة مفكر وهام بالاستقالة، من حقهما أن يفعلا ذلك، ولكن من المحظور علي الدولة أن تتجاهل كلماته الأخيرة التي قالها، ايلاند ترك من ورائه ظلالا من الشك مخيمة فوق الهرم الفكري المهمين والنظرية السائدة، هو ترك من خلفه سلسلة من التحذيرات بصدد المستقبل القادم، ولكن من فوق كل ذلك، أودع ايلاند في أيدينا وصية للتفكير، يتوجب علي أولمرت وأعوانه، من أجلهم ومن أجلنا جميعا، أن يستوعبوا هذه الوصية، وأن يبدأوا في التفكير وإعادة التفكير من قبل أن يصبح الوقت متأخرا جدا.