وثيقة "الوفاق الوطني" التي أطلقتها قيادات الأسري في السجون الإسرائيلية يوم 15 مايو الماضي، ودعمها الرئيس الفلسطيني "أبومازن"، وتحفظت عليها "حماس" صالحة لأن تكون أساس الحوار الوطني الفلسطيني المطلوب والمُلح. الفلسطينيون يقفون أمام خطر الحرب الأهلية، مع نشر "القوات الأمنية" هنا وهناك وتحت مسميات مختلفة. الخيارات المطروحة أمام "حماس" و"فتح" ليس فيها أي ترف، وهي ليست بين الحسن والسيئ، بل بين السيئ والأكثر سوءاً. ووثيقة "الوفاق الوطني" تمثل قاعدة معقولة للجميع. فهي وثيقة توافقية فعلاً من ناحية الإطار العام للأهداف الوطنية، وكذا من ناحية شمولية الموقعين عليها (فتح، حماس، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية...). أهم ما في الوثيقة، عملياً، هو أن القيادة العليا لأسري "حماس" وقعت عليها ودافعت عنها وطالبت علي لسان منسقها العام عبدالناصر عيسي بأن يتم تبنيها من قبل القائمين علي مؤتمر الحوار الوطني. ورغم أن قيادات "حماس" في الخارج تحفظت عليها بهذه الدرجة أو تلك إلا أنها تظل منطلقاً وطنياً حظي علي الأقل بتفهم من قبل كثيرين في "حماس". تشير إلي جزء من "حماس" مقتنع بها. وأهمية هذا الاقتناع تنبع من أن الوثيقة تطالب بدولة فلسطينية في حدود ما تم احتلاله عام 1967، وتعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للفلسطينيين، وتنيط مهمة المفاوضات بالرئيس الفلسطيني في الوقت الذي تطالب فيه بأن تتم المصادقة الشعبية علي أي اتفاق نهائي، عن طريق المجلس الوطني الفلسطيني، والمجلس التشريعي، أو عن طريق استفتاء عام. لا أحد يستطيع أن يزايد علي وطنية ومسئولية الأسري الفلسطينيين وحرصهم علي الحقوق الفلسطينية، وعلي عمل وطني موحد، خاصة وأنهم ضحوا بحياتهم وأغلب سنوات عمرهم من أجل فلسطين. لذلك فإن قيادات الفصائل خارج السجون، بما فيها قيادات "حماس"، لا تستطيع رفض هذه الوثيقة جملة وتفصيلاً. "أبومازن" وضع الفصائل أمام خيار اعتماد تلك الوثيقة كمحور للحوار الوطني والموافقة عليها، أو يدفعها للاستفتاء الشعبي علي الفلسطينيين في الداخل. مشكلة الفصائل الفلسطينية أنها تتحاور معاً من يوم أن تشكلت، و"فتح" و"حماس" تتحاوران منذ بداية الانتفاضة الأولي، وعند كل منعطف وإشكالية ينطلق حوار ما ثم عملياً لا ينتهي إلي شيء. لهذا ورغم السمة التهديدية والانفرادية التي لا تغيب عن وضع "أبومازن" لسقف زمني للحوار، فإنه من المفروض وطنياً ألا تترك الأمور مفتوحة وبلا نهاية. إذ ماذا سيكون الحل إن فشل الحوار وبقيت الأطراف مختلفة؟ الأفضل فلسطينياً ووطنياً ل"حماس" وللفصائل أن يتم التوافق علي صيغة ما وأن يخرج الحوار باتفاق وطني، وأن يتم تفادي الاستفتاء. وعلي "حماس" أن تدرك أن إحالة الوثيقة للاستفتاء علي ما فيها من إقرار بالشرعية الدولية والاعتراف الضمني بإسرائيل علي الشعب الفلسطيني هو تحد كبير. ومن الأفضل ألا يدفع الشعب الفلسطيني لذلك الموقف، ومن الأفضل أن تمارس "حماس" مرونة أكبر لتفادي الاستفتاء. فلو حصل وحدث فما فائدة موقف "حماس" المتصلب إن كانت نتيجة الاستفتاء مؤيدة لوثيقة الأسري؟ باختصار أن تتنازل "حماس" أفضل ألف مرة من أن يتنازل كل الشعب الفلسطيني. إن لم يكن من خيار سوي اللجوء للاستفتاء فإن "حماس" لا تستطيع أن ترفض ما يقبل به عموم الفلسطينيين، وهي نفسها كانت قد نظرت أكثر من مرة لفكرة طرح المسائل الكبري الخاصة بالمصير الفلسطيني علي الاستفتاء العام. ولم تتردد قيادات "حماس" في التأكيد علي أن الحركة تلتزم بالخيار الديمقراطي ولا ترفض ما تقبل به غالبية الشعب، وإن كان مخالفاً لقناعاتها وأفكارها. فالشيخ أحمد ياسين رأي ومنذ العام الأول من الانتفاضة الأولي (1988) أن رغبة الشعب الفلسطيني هي التي يجب أن تُقدم وتحترم، وإن خالفت ما تراه "حماس"، حتي لو وصلت تلك الرغبة بأن يرفض الشعب الشكل الإسلامي للدولة الفلسطينية. وقد قال مرة بوضوح: "إذا أعرب الشعب الفلسطيني عن رفضه للدولة الإسلامية فأنا أحترم وأقدِّس رغبته وإرادته" (مقابلة مع النهار المقدسية 30 أبريل 1989). وفي أوقات لاحقة دعت "حماس" أكثر من مرة لإجراء استفتاء عام لاستكناه رغبة الشعب وتوجهاته. ففي أحد بياناتها الدورية سنة 1992 تناولت "حماس" مسألة التفاوض مع إسرائيل وقالت "لابد أن يكون عبر استفتاء شعبي عام في الداخل والخارج وسط جو نزيه ودون ضغط أو إكراه، ليقول كلمته في كل ما يمسُّ مستقبله ويحدد مصيره ومصير الأجيال القادمة". وفي السنوات اللاحقة تكررت تصريحات رموز وقادة "حماس" التي تدعو لاعتماد مبدأ الاستفتاء. علي ذلك فإن نتيجة أي استفتاء علي وثيقة الوفاق الوطني يفترض أن يكون مرحباً بها من قبل "حماس". فسياسياً وفكرياً لا تستطيع الحركة التعبئة ضد فكرة الاستفتاء من ناحية ديمقراطية، وهي لا تستطيع أن تحشد كل قواها ضد مضمونه خاصة وأن قيادات "حماس" الأسيرة تدعم الوثيقة المستفتي عليها. وإذا قررت "حماس" أن تأخذ موقفاً معارضا قوياً من الوثيقة، وهو غير متوقع استناداً إلي تصريحات إسماعيل هنية وعزيز الدويك المرحبة بتحفظ بما جاء فيها، فإن الحركة تخاطر بمواجهة احتمال حدوث تململات قوية داخل "حماس" قد تصل إلي درجة الانشقاق. لكن ليس من الوارد أن تصعِّد الحركة ضد الوثيقة وهي تواجه معضلات ومآزق علي كل الصعد، وربما توفر الوثيقة حلاً لا يضطر "حماس" للتنازل عن مبادئها. ففي حال موافقة غالبية الفلسطينيين علي ما جاء فيها يكون بمقدور "حماس" إعلان قبول ما رغبه الشعب الفلسطيني، مع حقها في إعلان تحفظها بل وعدم قبولها كحركة لما جاء في بعض بنود الوثيقة. إذا نجح الحوار الوطني يغدو علي "حماس" أن تعيد تشكيل الحكومة الفلسطينية علي أساس حكومة ائتلافية وفق ما جاء في وثيقة الوفاق الوطني، وبحيث تترك مسافة أكبر بين "حماس" الحركة و"حماس" الحكومة. ويكون برنامج الحكومة متضمناً اعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وبقرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية في بيروت 2002. وبهذا المسار تلقي "حماس" الكرة ليس في ملعب "فتح" فحسب، بل في ملعب الدول العربية التي طالبتها بمواقف أكثر ليناً. ويصبح مطلوباً من دول كبري مثل مصر والسعودية والأردن لعب دور أكبر وأوضح بشأن دعم الحكومة الفلسطينية ليس فقط علي مستوي معيشة الفلسطينيين، بل الأهم منه التصدي لخطة أولمرت المدعومة الآن من بوش لفرض حل أحادي الرؤية. في خضم وغضون ذلك كله، يحتاج الأمر إلي سوية عالية من الإحساس بالمسئولية، وترفُّع عن الفصائلية، سواء من قبل "فتح" أو "حماس". إذا سارت "حماس" وفق ما ذكر أعلاه لا يتبقي أي عذر ل"فتح" لمواصلة ما تقوم به الآن من إعاقة لحكومة "حماس"، ولن تعذَر إن رفضت المشاركة في حكومة وطنية. وإذا سارت الأمور وفق ذلك المسار فإن علي "حماس" أيضاً أن تنظر لمسألة الحكومة الوطنية كمسألة استراتيجية وليست تكتيكية، وذات علاقة بجوهر المشروع الوطني، وليست لتخفيف الضغوط عن "حماس" كتنظيم وفك الحصار عنه. كما يجب استبعاد أية رؤي "ما فوق براجماتية" من مثل أنه إذا قررت "حماس" القبول بوثيقة الوفاق الوطني، فلماذا لا تجني هي وحدها ومباشرة ثمار ذلك القبول، عن طريق الاعتراف الإقليمي والدولي بها، ولا تتسرع في تشكيل حكومة وحدة وطنية