الأحكام التي صدرت فيما يتعلق بقضية "إنرون" تمثل ضربة جديدة للنموذج الرأسمالي الأمريكي الذي تعرض بالفعل لانتقادات عنيفة جراء انتهاكاته الفادحة للقيم الأخلاقية التي تتأسس علي الإدراك والفطرة السليمة. وفي هذا الإطار كتب عالم الاقتصاد الأمريكي "روبرت ليكاتشمان" في قاموس "هابر للفكر الحديث" يقول: "في الحقيقة أن الأيديولوجية الرأسمالية تقدم تأكيداً مضمراً مفاده أن عدم عدالة توزيع الدخل والثروات يقيس وإن بشكل تقريبي المساهمات الاقتصادية للرجال والنساء، الذين يسخِّرون طاقاتهم ومواردهم في العملية الإنتاجية". والنموذج الاقتصادي الأمريكي والمؤسساتي الجديد ينفصل بشكل يدعو للغرابة عن هذا الأساس الأخلاقي، وهو يفعل ذلك بطريقة تشي بإمكانية حدوث تداعيات نهائية ذات آثار مدمرة علي المجتمع. فالدفاع الطبيعي الذي يقدمه النظام المؤسسي الأمريكي عن قيامه بمنح مكافآت قدرها مليار دولار للمديرين التنفيذيين علي سبيل المثال، هو دفاع عدمي يقول إن السوق هي التي تقرر النموذج الأخلاقي السائد في مجال الأعمال. بمعني آخر أن كل إنسان يستطيع أن يهرب بما تصل إليه يداه. والحجة النظرية التي ينهض عليها هذا الدفاع هي أن مثل هذه المكافآت تُعد عنصراً ضرورياً في النظام الحديث، لأن تخليق القيمة للمستثمرين سينتج عنه توليد الرخاء للجميع بلا استثناء. فالثروة سيرشح جزء منها ويتسرب ويعم خيرها علي الجميع، أو بمعني آخر أن المد المرتفع سيؤدي إلي رفع الجميع معه. لا يمكن اعتبار ذلك صحيحاً في عالم اليوم. فالمؤسسات المعولمة تُعرِّف العمل بأنه العنصر الذي يمثل أكثر تكاليفها الإنتاجية عادة كما أنه يعتبر من ناحية أخري أسهل تلك التكاليف من حيث إمكانية التخفيض. معني ذلك أن الإدارة تعتبر نفسها ملزمة بأن تحد إلي أقصي مدي ممكن "من عملية تسرب القيمة إلي العمال". ومعني ذلك أن منظومة القيم السائدة في المؤسسات الأمريكية في الوقت الراهن ترفض المبدأ الذي لقي تكريماً وتبجيلاً في أمريكا وأوروبا فيما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يقوم علي أن المشروع يجب أن يخدم مصالح العمال والمجتمع (من خلال دفع الضرائب) بالإضافة إلي مصالح المستثمرين والمديرين بالطبع. وقد تم فرض منظومة القيم الجديدة هذه بواسطة جماعات المستثمرين كما جري اعتمادها من قبل كليات إدارة الأعمال، والحكومات، ومعظم قطاعات المجتمع الاقتصادي، علي الرغم من أن الفكرة القائلة إن الشركات عبارة عن "عملية تجميع للأصول التي يجب معالجتها والتعامل معها بغرض تعظيم عوائد حملة الأسهم" قد تعرضت لانتقادات من قبل البعض. ومن المعروف أن الشركات تجد صعوبة في تخفيض تكاليف المواد الخام والطاقة. وأكثر التكاليف تعرضاً لإمكانية التخفيض هي تكلفة العمل. فالأجور الحقيقية، والمزايا يمكن تخفيضها، بل ويمكن إذا ما دعت الضرورة تقليص قوة العمل الحالية الموجودة في المؤسسة. كان هذا صعباً بل مستحيلاً في الماضي لأن العمل كان ثابتاً وغير متنقل، علاوة علي أنه كان غير متوفر بكثرة في معظم الأوقات، كما كان أيضاً منظماً أحياناً وقوياً من الناحية السياسية. أما بالنسبة للشركة أو المؤسسة المعولمة، فإن مشكلة تكلفة العمل بسيطة للغاية بل ويمكن القول إنها تمثل البساطة في حد ذاتها. فيمكن للشركة علي سبيل المثال الاستغناء عن العمالة المحلية كلياً وتهجير العمل للخارج، أي تكليف عمال خارج حدود الدولة بتنفيذه، أو تحويل عملية الإنتاج برمتها وبكافة مكوناتها إلي الخارج للاستفادة من قوة العمل الرخيصة المتاحة. وبهذه الطريقة، فإن الجزء الأكبر من القيمة التي تم تكوينها أثناء عملية الإنتاج يتم انتزاعه من قوة العمل المحلية، ومنحه لحملة الأسهم والمديرين. العمال الخارجيون ينتفعون بذلك إلي حد معين بالطبع، (وطالما أن الشركة التي تقوم بتهجير العمل لا تقوم بالانتقال إلي مصدر خارجي آخر أرخص لأداء الأعمال). أما باقي القيمة المكتسبة فتتسرب أو "تتدفق" للأعلي إلي حمَلة الأسهم والمديرين. الشيء الوحيد المؤكد هو أن القيمة لم تعد تتسرب إلي قوة العمل المحلية كما كان يحدث من قبل. علي الرغم من هذا فإنه عادة ما يتم الاحتفاء بذلك علي أنه يمثل خطوة تقدمية، فطالما أن الدولة التي تورد قوة العمل الجديدة تستفيد، وأن مستهلكين آخرين يستفيدون لأن سعر السلعة يهبط، في نفس الوقت الذي يتم فيه تقديم النصح لقوة العمل الأصلية كي تعيد تدريب نفسها حتي تتمكن من الحصول علي وظائف جديدة، أكثر تعقيداً، وعالية القيمة، في الصناعات فائقة التقنية والتي تعتمد علي الابتكار والإبداع.