النموذج الأمريكي البراق فقد لمعانه، والممثل الأعلي انصرف عن القوم بسبب مخاوفهم من النموذج الأمريكي الإمبريالي في ثوبه الجديد والساعي لتحقيق مصالحه وإدراك أهدافه القومية الضيقة، دون النظر إلي مصالح العالم المحيط به، فيما يبقي الخطر الأكبر متمثلا في أمريكا المدججة بترسانة أسلحة رهيبة. ويرصد تقرير خطير صدر منذ أيام عبر مركز "بيو" لاستطلاعات الرأي كيف تدهورت صورة الولاياتالمتحدة مع استمرار الحرب الأمريكية في العراق للعام الرابع علي التوالي؟ والواقع أن هذا التدهور يحدث بسبب التناقض الواضح والفاضح للسياسات الأمريكية، وبسبب تخلي واشنطن عن مساندة الديمقراطية، ولعل نظرة واحدة إلي كم الاتفاقيات التي لم تعترف بها الولاياتالمتحدة تعطي مبررا كافيا للانقلاب علي هذا النموذج. ولعل التساؤل الذي يجب طرحه في الحال والاستقبال: هل يمكن للولايات المتحدةالأمريكية في ضوء هذه الاستطلاعات أن تغير من سياساتها وان تصبح إدارة بوش آخر نماذج "القوة البسماركية" في تاريخ أمريكا الحديث أي آخر إدارة تؤمن بان تطبيق القوة العسكرية هو الأداة الحيوية للسياسة الخارجية؟ ربما يصبح هذا أمرا واقعا تجد واشنطن وقادة الرأي والفكر فيها انه لا بديل عنه لاسيما في ضوء تنامي تجارب ناجحة عديدة تهدد الحضور الأمريكي منها وأقربها جغرافيا إلي واشنطن ما يجري في الفناء الخلفي أي في أمريكا اللاتينية والتي عاد اليسار ليدق بقوة ما بعدها قوة وليحقق انتصارات ملحوظة تزلزل أركان النظرة الاستراتيجية التقليدية لأمريكا اللاتينية كامتداد جيوسياسي لأمريكا الشمالية. وإذا كانت الشيوعية قد مضت إلي غير رجعة وغير مأسوف عليها فان نموذج اليسار لم يمت وقد جاءت الاتجاهات النيوليبرالية التي قادتها أمريكا في العقد الأخير بنتائج عكسية دفعت دولا كانت ذات يوم حليفا لواشنطن للانقلاب عليها والدخول في شراكات مع الصين القطب الدولي القادم والذي يهدد النموذج الأمريكي من خلال توثيق علاقات التنين مع دول القارة اللاتينية وهو تحالف مشابه لما يجري في القارة الأفريقية التي توثق الصين علاقاتها اليوم بأنظمتها بحثا عن المزيد من المنافع المتبادلة دون أن تشكل وجعا في رأس شعوبها بمطالبتهم إياها بمنهج سياسي معين. ليس هذا فقط ما يهدد الحلم والنموذج الأمريكي ويجعل من نسب الاستطلاعات تتدني لجهة القرارات الإمبراطورية الحديثة بل إن النموذج الأوروبي الجديد ربما يضحي بديلا قويا وفاعلا أمام ناظري العالم. ففي كتابه الذي صدر مؤخرا بعنوان "الحلم الأمريكي" يحي عالم أبحاث المستقبل جيريمي ريفكين اتحادا أوروبيا ناشئا يقوم علي نظام رفاهية اجتماعية سخي وتنوع ثقافي واحترام القانون الدولي وهو نموذج انتشر بسرعة عبر بلدان أوروبا الشرقية السابقة والبلطيق ناهيك عن نماذج ناجحة لصعود الرأسمالية في آسيا الشرقية وهي نماذج قادرة علي طرح بدائل وطنية للرأسمالية الأمريكية المتجبرة والمتكبرة. وفي إطار التعرض النقدي لصورة أمريكا المهتزة والمهترئة في عيون الكثيرين يلزم للأمانة والموضوعية أيضا التفريق بين الإدارة الحاكمة وبين الشعب الأمريكي وهو الأمر الذي لمسه استطلاع مركز بيو إذ أشار إلي أن العديد من المشاركين يفرقون بين مشاعرهم السلبية تجاه الرئيس الأمريكي جورج بوش ومشاعرهم تجاه الشعب الأمريكي بصفة عامة. فقد تبين أن الغالبية في 7 دول من بين 14 دولة ليس بينها الولاياتالمتحدة لديهم وجهات نظر جيدة تجاه الأمريكيين كان أعلاها في اليابان 82% وبريطانيا 69 % والمؤكد كذلك أن عينة النتائج التي أخذت في الدول العربية قد راعت هذا التفريق الواضح والمبين فالمعركة الأيديولوجية بين العرب والولاياتالمتحدة إنما تدور في فلك المواجهة مع الحكومات والإدارات الأمريكية التي دفع العرب ثمنا باهظا لازدواجيتها والتي تجلت في دعم إسرائيل ظالمة طوال الوقت إضافة إلي المشهد العراقي الحديث الذي يدمي القلوب والعقول بل اكثر من ذلك نقول ان هناك من يكبر مواقف الشعب الأمريكي الذي خرج منه ذات مرة اكثر من مليوني شخص تظاهروا في نيويورك رافضين لشن حرب علي العراق. وفي رؤيتنا لما هو ابعد من تقرير بيو نشير إلي ان الحلم الأمريكي والذي كان اقتصاديا في جانب رئيسي منه ومثالا نموذجيا ديناميا للمشروعات الحرة والسوق الحرة والفرص الفردية المستندة إلي الجدارة والحراك أضحي بدوره مهددا وغير مرغوب فيه لا سيما بعدما شهدت السنوات الأخيرة تنامي اقتصاديات صناعية جديدة في أوروبا واسيا وأمريكا اللاتينية تمضي قدما في وقت زاد فيه الدين العام الأمريكي عن الناتج الإجمالي المحلي وفي ظل الاتجاهات الاقتصادية الراهنة سيصبح الاقتصاد الصيني اكبر من الأمريكي بحلول عام 2040. ورغم ما قيل عن الفروق بين النموذج الأمريكي الدينامي والنموذج الأوروبي الذي يزعم بأنه بطئ ومبالغ في تنظيماته إلا ان ذلك في حقيقة الأمر خرافة ليس اكثر فعلي مدي معظم حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية تمتعت أوروبا واليابان بمعدلات نمو أعلي من مثيلتها في أمريكا وتفوقت علي سبيل المثال شركة ايرباص أخيرا علي بوينج فيما يتعلق بمبيعات الطائرات التجارية وتعدي الاتحاد الأوروبي أخيرا أمريكا كأكبر شريك تجاري للصين. وقد بدأت العديد من البلدان مثل المجر وبولندا الأكثر فقرا والمؤيدة لأمريكا ترفض ان تستورد النموذج الاقتصادي الأمريكي والسبب وراء ذلك هو عيوبه التي تظهر بتزايد. والحاصل ان النموذج الأخير لإدارة بوش كان سببا جوهريا في إلحاق الأذي الكبير بصورة أمريكا التي عرفنا وأحببنا في بواكير الشباب لاسيما لدي القراءة الواعية الفاهمة لما جاء في صورتها الولسنية نسبة إلي ودرو ولسون الرئيس الأمريكي الذي حمل في خطاب له بتاريخ 27 مايو 1916 صورة لأمريكا كفيلة إذا عادت إليها اليوم بان ترتفع نسب تأييد نموذجها إلي عنان السماء وتصبح عن جدارة " مدينة فوق جبل تنير لمن حولها " وتضحي من ثم ملح الأرض ونور العالم حسب رؤي اليمين المسيحي الضارب اليوم هناك في إطار السعي البشري نحو المدينة الفاضلة حتي وان لم توجد بعد. يقول ولسون ان أمريكا تؤيد حق كل شعب من الشعوب في ان يختار النظام السياسي الذي يجده مناسبا له ومن حق الدول الصغيرة في العالم ان تتمتع بسيادتها وبسلامة أراضيها ومن حق العالم ان يتحرر من كل ما يعيق سلامه من أي شكل من أشكال العدوان والتنكر لحقوق الآخرين. والشاهد انه لا عجب ان تهوي صورة أمريكا في عهد جورج بوش صاحب التقسيم المانوي العجيب للعالم بين معسكرين للخير والشر زاعما انه ومن حوله فرسان الخير وهو بينهم المتنور الأعلي في حين كانت أمريكا في عهد ولسون قبلة الحرية وأرض البحث عن الفردوس المفقود عند جون ملتون.