قبل وقت غير طويل كان الحكم الأمريكى يثير خيالا ونزعة عالمية . لم يكن الأمريكيون وحدهم يرون فى أنفسهم منارة للأمم الأخرى فهكذا رأتهم بقية دول العالم، أوروبا الشرقية استمعت لإذاعة أوروبا الحرة ونصب الطلبة الصينيون نسخة من تمثال الحرية فى ميدان تيانامن " . هكذا يستهل اندرو مورافشيك أستاذ السياسة ومدير برنامج الاتحاد الأوربى فى جامعة برنستون الأمريكية الشهيرة مداخلته التى يصف فيها حال الولاياتالمتحدة عبر عقود طوال امتدت من نهاية الخمسينيات حتى أوائل القرن الحادى والعشرين . غير أن استطراد الكاتب والمفكر الأمريكى يشير إلى أن هذا الحلم أصبح محل جدل وتساؤل إذ يقول " إن الكثير من البلدان اليوم تجد نماذج اكثر جاذبية فى ساحاتها الخلفية" . ومعنى ما تقدم هو أن النموذج الأمريكى البراق قد فقد لمعانه وان المثل الأعلى قد انصرف عنه القوم بسبب مخاوفهم من النموذج الأمريكى الإمبريالى فى ثوبه الجديد والساعى لتحقيق مصالحه وإدراك أهدافه القومية الضيقة دون النظر إلى مصالح العالم المحيط به فيما يبقى الخطر الأكبر متمثلا فى أمريكا الواهمة المدججة فى ذات الوقت بترسانة من الأسلحة الفتاكة التى ما انزل الله بها من سلطان أما الوهم فهو قدرتها على نشر ما تراه من نموذجها الديمقراطى الليبرالى فى العالم والتساؤل هل وقعت أمريكا بحق فى التجربة الإمبريالية مما جعل العالم ينقلب على نموذجها اليوتوبى فى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان إلى آخر تلك المنظومة التى مل العالم من سماعها ؟ للإجابة نتوقف أمام التقرير الذى صدر منذ أيام قلائل داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية عبر مركز بيو لاستطلاعات الرأى وهو واحد من أهم واثق بل واصدق ما عرفت الولاياتالمتحدة من مراكز فى السنوات الأخيرة وفيه " انه مع استمرار الحرب الأمريكية فى العراق للعام الرابع على التوالى فان صورة الولاياتالمتحدةالأمريكية العالمية قد ازدادت تدهورا حتى فى وسط مواطنى بعض الدول الحليفة . فقد انخفضت وجهات النظر المؤيدة للولايات المتحدة بشكل حاد فى أسبانيا على سبيل المثال حيث قال 23 % إن لديهم وجهات نظر ايجابية حول الولاياتالمتحدة مقارنة ب 41% فى العام الماضى ومن بين الدول التى انخفضت فيها وجهات النظر الايجابية بخصوص الولاياتالمتحدة جاءت الهند حيث تدنت نسبة التأييد للتوجهات الامريكية من 71 % فى العام الماضى إلى 56 % فى العام الجارى فيما جمهورية روسيا الاتحادية والتى تشهد فى السنوات الأخيرة عودة أو إرهاصات لعودة المجد الإمبراطورى القيصرى انخفضت كذلك النسبة من 52% العام الماضى إلى 43% وفى اندونيسيا تحرك المؤشر من 38% العام الماضى هبوطا إلى 30 % العام الجارى وفى تركيا جاء التقرير بأقل نسبة تأييد " 12% " بعد أن كانت العام الماضى 23% . والواقع أن تدنى نسبة التأييد فى بلد كأسبانيا شارك الولاياتالمتحدة فى قرار غزو العراق إلى هذا الحد يؤشر إلى أن هناك فى واقع الأمر تحولا جذريا لجهة النظر الأوربية لأمريكا ولم يقتصر الأمر على أسبانيا فقط بل طال التدهور كلاً من فرنسا وألمانيا والأردن ومصر . ومما لا شك فيه أن الحرب الأمريكية على العراق والتى لم تستطع دول العالم منعها قد أوجدت حزازات فى صدور العالم الغربى عامة تجاه انفراد أمريكا باتخاذ القرار ولا نغالى إن قلنا إنها أوجدت كذلك ضغائن فى نفوس العرب والمسلمين لا سيما بعد تكشف الأحداث المأساوية الأخيرة فى مدن عراقية كالحديثة والاسحاقى حيث قتل أبرياء عراقيون من أطفال ونساء وشيوخ بدم بارد . وعليه فقد توصل مركز بيو إلى أن الدعم الإعلامى والزخم الكبير الذى حظيت به الولاياتالمتحدة فى أعقاب الحادى عشر من سبتمبر عبر حملتها الدولية لمكافحة الإرهاب قد اخذ يفتر وينخفض بدوره وكان فى الازمة الإيرانية خير مثال على ذلك إذ رفض الجميع التصديق المطلق والجامع المانع لأقوال الأمريكيين من أن هذا البرنامج سيقض مضاجع العالم وسيزيد من مساحة الإرهاب فيه والمثير فى نتيجة استطلاع مركز بيو هو انه رغم أن الغالبية العظمى عبرت عن قلقها من البرنامج النووى الإيرانى فى الحدود الطبيعية لهذا القلق غير أنهم رأوا فى حرب العراق الخطر الأكبر على السلام العالمى . ويقول اندرو كوهوت رئيس مركز بيو عندما تجد مزيدا من الناس يقولون إن الوجود الأمريكى فى العراق يمثل تهديدا للسلام العالمى بنفس النسبة مع من يشيرون إلى إيران فان ذلك يعد دليلا على أن حرب العراق تؤثر على النوايا الحسنة للولايات المتحدة . إلا انه فى حقيقة الأمر يبقى التدهور السلبى فى سمعة هذا البلد والذى كان حتى وقت قريب " مدينة فوق جبل " تنير للساعين فى طريق الحرية والعدالة نقول إن هذا التدهور يعود فى جوهره لما هو ابعد بكثير من مجرد الغزو العراقى وان اعتبر الأخير بمثابة الصاعق الذى فجر مخزونات الرفض الشعبوى العالمى فى وجه الإدارة البوشية الحالية والتى