كثيرا ما يتردد أن بن لادن زعيم تنظيم القاعدة مجرد اختراع أمريكي لتبرير غزو أفغانستان والعراق وإحكام السيطرة علي العالم تحت زعم محاربة الإرهاب. وهناك أيضا قول آخر بأنه لا يوجد شئ اسمه تنظيم القاعدة، وأن هذا التنظيم من اختراع المخابرات الأمريكية، ويمتد هذا المنطق المشكك إلي أن أمريكا نفسها هي التي قامت بعملية 11 سبتمبر. والمثير أن بن لادن لم يحتج مرة واحدة علي من يسلبونه شرف ضرب أمريكا في عقر دارها، فهو نفسه قد أنكر في البداية مسئوليته عن العملية، ثم أقر بعد ذلك علانية في أكثر من شريط مسجل أنه وجماعته من قاموا بها. هذا الأسلوب الغامض والمستفيد من الحقيقة وضدها هو إحدي خصائص تلك القوة العالمية الجديدة التي يمثلها بن لادن، وهو الأسلوب الذي مكنها من تحقيق اختراق واسع في أماكن لم يكن أحد يتصور وصول هذه القوة إليها. فكرة الإرهاب وعالميته حولها جدل واسع ولم يستقر عليها الفكر السياسي بعد، والسبب أن هذا الفكر قد عاش تاريخا طويلا لا يعرف فيه إلا الدولة كوحدة أساسية للنظام الدولي، أما الحركات السياسية خارج هذا الإطار فلم يكن يعتد بها إلا في حيز محدود يكون التحدي فيه والتمرد موجها إلي دولة بعينها وليس إلي العالم كله. فكرة تحول الإرهاب إلي قوة عالمية تنافس القوي الأخري وتتحداها وتحاربها وتعرض عليها في بعض الأحيان التفاوض وتبادل المنافع لم يقتنع بها الكثير حتي الآن. منذ أيام قليلة، نُسب إلي بنظير بوتو تصريحات أشارت فيها أنه خلال فترة حكمها لباكستان منذ خمسة عشر عاما عُرض عليها خطة بواسطة عدد من جنرالات الجيش الباكستاني ومعهم نفر من المجاهدين العرب الناشطين في أفغانستان لشن عمليات عسكرية ضد "القوة الأولي" في العالم _ والمقصود بها أمريكا _ مستفيدين من خبرة هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. وبرغم انتقاد اللواء سلطان شوكت الناطق باسم القوات المسلحة الباكستانية لهذه التصريحات إلا أنه لم ينفها بشكل قاطع، وقال أن من الخطأ معالجة أمور حدثت قبل 15 سنة أو النظر إليها بالعين ذاتها التي ننظر بها حاليا إلي الأحداث. لقد مثلت باكستان لبن لادن أهمية عظمي، فهي التي خرجت منها حركة طالبان، وعندما انحاز الجنرال مشرف إلي الولاياتالمتحدة وتحالف معها في الحرب ضد أفغانستان فقد بن لادن إلي حين أمل السيطرة علي بلد يمتلك القنبلة النووية وترسانة من الصواريخ والأسلحة المتقدمة. وفي حديث مسجل قريب لبن لادن هاجم فيه الجنرال مشرف بقسوة وطالب العسكريين الباكستانيين الانقلاب عليه. من غير المستبعد أن تكون قصة بناظير بوتو حقيقية. وقد تبدو الفكرة التي عُرضت عليها ساذجة إلا أنها كانت معبرة تماما عن الاعتقاد السائد عند بن لادن وصحبه من أنهم قد تعلموا كيف يهزمون قوة عظمي. هزيمة السوفييت وانتصار طالبان علي الجماعات الإسلامية المسلحة فتح الطريق أمام بن لادن ورفاقه للسير في مشروعهم العالمي لاستعادة مجد الإسلام ودولته العالمية. من الواضح أن بن لادن والظواهري قد آمنوا بالفكرة، وتمكنوا من خلال حربهم ضد السوفييت في أفغانستان في إحداث اختراق أيديولوجي موازي في أوروبا وكندا وأمريكا خاصة في أوساط المهاجرين المسلمين، ثم زرعوا نفوذهم في كل الأماكن الرخوة التي تأثرت من انتهاء الحرب الباردة مثل البلقان والشيشان والصومال ونيجيريا، وأماكن أخري في آسيا مثل إندونيسيا وتايلاند وجنوب الصين. وبطبيعة الحال امتد هذا النفوذ والتأثير والتواجد إلي كل الدول العربية والإسلامية بما في ذلك تركيا. كان في مقدور هذا التيار المتشدد أن يقوي جذوره في أفغانستان تحت حكم طالبان ويصنع المجتمع الإسلامي الخالص كما يحلم به والقائم علي تأكيد مفاهيم خاصة تتصل بالمرأة والتعليم والفن والنظرة إلي العالم. لكن تحالف القاعدة مع طالبان لم يكن يمثل إلا بداية الطريق إلي غزو العالم. فعندما غزت الولاياتالمتحدةأفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر ظهر أن تسمية الأفغان العرب لم تكن معبرة تماما عن واقع الحال، فقد وجدت القوات الأمريكية أن هؤلاء كانوا باقة من المجاهدين القادمين من العالم أجمع من الشيشان والبوسنة وكوسوفو وبريطانيا وأستراليا وفرنسا والولاياتالمتحدة نفسها. وفي الحقيقة لم يعترف العالم بعالمية هذه القوة ونفوذها إلا بعد 11 سبتمبر، وأخذ وقتا ليس بالقليل في محاولة فهمها وتحليل جوانب قوتها. والمشكلة التي تواجه النظام الدولي الآن أنه أكتشف أن الحل العسكري مع هذه القوة الجديدة ليس كافيا، بل إنها تزداد صلابة مع كل عملية عسكرية تتم ضدها لأن العملية عادة ما تصيب قطاعا واسعا من الناس نظرا لغموض الجماعات الإرهابية وانتشارها واختراقها لأماكن كثيرة. وهذا ما حدث بالفعل في العراق وأفغانستان، كما أن فشل القوي الدولية في حل القضايا المزمنة مثل القضية الفلسطينية قد فتح الطريق أمام قوي الإرهاب العالمي لاستغلال هذه القضايا في تجنيد مزيد من المريدين والمتعاطفين. من غير الواضح حتي الآن طبيعة العلاقة بين منظمة القاعدة والحركات الإسلامية الأخري الأصولية والمتشددة في العالم العربي والإسلامي. معظم هذه الحركات مثل الإخوان المسلمين وحماس والجهاد وحزب الله أدانت عملية 11 سبتمبر، لكن ليس مستبعدا أنهم كانوا سعداء بها. ولو رجعنا إلي أحداث تلك الفترة لوجدنا أيضا أن رد فعل قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي كانت خليطا من الاستنكار والأسف والإحساس في نفس الوقت بأن هناك شيئا ما خطأ في أمريكا نفسها. لقد ذُهلت أمريكا من رد الفعل الشعبي في أوروبا لأحداث 11 سبتمبر وجعلها ذلك تقول "لماذا يكرهوننا؟" وكانت تقصد بذلك العالم كله وليس العالم الإسلامي فقط. وهاجمت الإدارة الأمريكية أي استعمال لكلمة "لكن" في أي تعليق علي أحداث 11 سبتمبر، وإلي الآن مازال الأمريكيون يدينون أي حديث يركز علي "أسباب الإرهاب" علي أساس أنه لا يوجد أي سبب يمكن أن يبرر قتل المدنيين. أيضا لا يمكن الجزم بطبيعة علاقة القاعدة بإيران. وبرغم الزعم أن العلاقة بينهما عدائية إلا أن كثيرا من زعماء القاعدة لجأ إلي طهران بعد حرب أفغانستان، وهناك أسرار كثيفة تحيط بعلاقة طهران بحماس والجهاد وحزب الله وسوريا وعلاقة كل هؤلاء بالقاعدة. إن القوة الهائلة لأمريكا تبرر وجود تحالف بين أطراف متنافرة ضدها، لأن الضرورات تبيح المحظورات في فكر هذه الجماعات والقوي المناوئة للغرب. لم تعد نماذج الإرهاب القديمة التي ضربت العالم في سنوات الستينات والسبعينات تنفع في استخلاص دروس لمواجهة النموذج الحالي للإرهاب، والسبب أن الإرهاب القديم لم يكن عالميا في حين أن إرهاب بن لادن قد خطط من البداية علي أن يكون عالميا. وساعده في ذلك الخبرة التي اكتسبها في أفغانستان المعجونة بقدر هائل من الإبداع التنظيمي طويل المدي في نشر الأفكار السياسية المضفرة بالدين والممسكة بتلابيب اللحظة التاريخية لعالم في حالة تحول. هناك مراكز دراسات كثيرة تعكف علي دراسة النمط الحالي للإرهاب العالمي ومهارته في استغلال كل أدوات اللبرالية مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان في نشر فكره الإرهابي، لكنه عند الحاجة يرفع عصا العنف الدموي منتجا مجالا من الردع علي المستوي الفردي والجماعي. إن ما يجري الآن في فلسطين ومصر وإيران وسوريا ولبنان والسعودية ودول الخليج والعراق وأفغانستان يعطي الإحساس أن المنطقة تقترب من لحظة مواجهة حاسمة بين القوي الإسلامية السياسية التي أخذت مواقع متقدمة، ورمت بنفسها في معترك العمل السياسي وفي يدها السكين والبندقية والقنبلة وبين قوي العولمة والحضارة الغربية بميراثها المعروف المرفوض تماما من المعسكر الآخر والمدججة أيضا بكل أنواع الأسلحة المعروفة. هل نحن الآن أمام معركة فاصلة؟ أمام ستالينجراد جديدة؟ ومن هو المدافع عن المدينة وحضارتها؟ ومن هو المهاجم لها؟..سؤال لن تكون إجابته سهلة.