نعم أم لا لبناء جدار علي الحدود؟ الحقيقة أن الجدل الدائر في الولاياتالمتحدة جعل بعض المكسيكيين يرون أنها فكرة ليست سيئة علي أية حال. فإذا كانت مشاعر الغضب والاتهامات بالنفاق قد طغت، كما كان متوقعاً، علي برامج الإذاعات والصفحات الأولي للجرائد في المكسيك، ولاسيما في هذه الظرفية التي تتميز بالحملة الانتخابية الرئاسية التي تعزف علي وتر الكبرياء الوطني، فإن تياراً آخر في المكسيك، بات يكتسب زخماً متزايداً علي نحو مفاجئ، يري أن من شأن السياجات الجيدة أن تساهم في علاقات جيدة بين الجارين. وقد واجه الجدل المحتدم حول موضوع الحدود الرئيس المكسيكي فيسانتي فوكس في كل محطة من محطات الزيارة التي بدأها إلي الولاياتالمتحدة يوم الثلاثاء. وإذا لم يكن فوكس قد أيد الفكرة علناً، فإنه أوضح أن حكومته مستعدة لتقبل تعزيز أمن الحدود، علي أن يكون مشفوعاً بتدابير تفتح القنوات القانونية أمام هجرة العمال المكسيكيين. وخارج حكومته، بدأ العديد من خبراء الهجرة يروجون لفكرة أن الجدران الحقيقية قد تشكل فرصة في واقع الأمر، وليس هجوماً. إذ يرون أن من شأن الجدار أن يثني المهاجرين غير الشرعيين عن القيام برحلة محفوفة بالمخاطر عبر صحراء سونورا، وأن يحمل الشركات علي جانبي الحدود علي الحد من اعتمادها علي صناعة تتميز بالاستغلال. وقد أفسحت لعبة توجيه اللوم القديمة، التي تعزو فيها المكسيك الهجرة غير الشرعية إلي الطلب الأمريكي الشره علي العمالة وتتهم فيها المشرعين الأمريكيين بمعاداة الأجانب، المجال لنقاش أكثر رزانة حول جهود المكسيك المحدودة في سبيل ثني الناس عن مغادرة وطنهم. وفي هذا الإطار، يقول جورج سانتيبانييز، رئيس مؤسسة "الحدود الشمالية": "لقد دأبت المكسيك منذ وقت طويل علي الافتخار بالمهاجرين الذين تصفهم بالأبطال الوطنيين، بدلاً من أن تصفهم بالمساهمين في مأساة وطنية"، مضيفاً "كما دأبت علي الافتخار بارتفاع تحويلاتهم المالية (المال الذي يرسله المهاجرون إلي بلادهم) باعتبارها مؤشراً علي النجاح، بينما هي في الواقع مؤشر علي الفشل". والواقع أن فوكس، الذي طلب من الولاياتالمتحدة قبل خمس سنوات أن تحذو حذو أوروبا وتفتح الحدود، يجسد مواقف المكسيك المتغيرة، والمتناقضة أحياناً، تجاه الهجرة غير الشرعية. وفي هذا السياق، يري غابريال غيرا، المحلل السياسي، أن الانتخابات الرئاسية المرتقبة في يوليو والمفاوضات حول إصلاح الهجرة في واشنطن وضعت فوكس في وضع سياسي صعب. فإذا كان التخفيف من معارضة بلاده للجدار أفضل وسيلة لإقناع المحافظين في الكونجرس بتبني إصلاحات تقضي بتسوية أوضاع نحو 12 مليون مهاجر غير شرعي يعيشون في الولاياتالمتحدة، وتوسيع برامج "العامل الضيف"، فإن الانصياع لما يصفه عدد من المنتقدين ب "عسكرة الحدود" من دون النجاح في إقناع الأمريكيين بضرورة تسوية الأوضاع القانونية للمهاجرين المكسيكيين، قد يعرّض فوكس لسيل من الانتقادات والتهم بالاستسلام للولايات المتحدة. ثم إن من شأن ذلك أيضاً أن يلحق الضرر بتطلعات فيليبي كالديرون، المرشح الذي يدعمه فوكس من أجل خلافته في انتخابات الثاني من يوليو. وفي هذا السياق، يقول غيرا "إنها رحلة خطرة للغاية. ففي حال كان قوياً، فإنه سيقلق المحافظين هناك. أما إذا لم يكن قوياً بما فيه الكفاية، فإنه سيكون محل انتقادت مناوئيه هنا". ومن جانبه، أقر نائب وزير العلاقات الخارجية جيرونيمو جوتيريز بالتحدي الذي يواجه الرئيس قائلاً "إننا وسط تبادل لردود الفعل أشبه بلعبة كرة الطاولة، وهو أمر يعكس مخاوف مشروعة علي جانبي الحدود، ولذلك فالظرف معقد واستثنائي في العلاقات الثنائية". وقد دخل فوكس وسط اللعبة يوم الثلاثاء حين بدأ جولة إلي الولاياتالمتحدة من المقرر أن يزور خلالها يوتاه وواشنطن وكاليفورنيا، وهي جميعها ولايات تربطها بالمكسيك علاقات تجارية مهمة، كما أنها ولايات جربت سلبيات الهجرة غير الشرعية وإيجابياتها معاً. وفي يوتاه، حيث تشير الإحصائيات الرسمية إلي أن عدد المهاجرين غير الشرعيين تضاعف ثلاث مرات منذ 1990 ليصبح نحو 90000 مهاجر، تبعت مجموعات صغيرة من المحتجين الرئيس فوكس في زيارته إلي مدينة "سالت ليك سيتي" وحمل بعضهم شعارات تقول "اعتنِ بأفراد شعبك حتي لا يضطروا للمجيء إلي هنا". وقد آثر الرئيس فوكس ألا يعلق بشكل مباشر علي موضوع الهجرة تلافياً لصب مزيد من الزيت علي النار وتأجيج مواقف المحافظين في واشنطن، في وقت يشرف فيه مجلس الشيوخ الأمريكي علي ختم النقاش حول إصلاح قوانين الهجرة، غير أنه أدلي بدلوه في الموضوع، حيث أقر، في كلمة ألقاها في ولاية يوتاه، بأنه يتعين علي المكسيك بذل المزيد من الجهود من أجل توفير فرص العمل "حتي تصبح الهجرة اختياراً وليس ضرورة"، كما اعتبر أنه من حق الولاياتالمتحدة اتخاذ تدابير تروم تعزيز أمن الحدود. غير أن كسب التحديات التي تطرحها الهجرة غير الشرعية، يضيف فوكس، يتطلب أكثر من مجرد تشديد للإجراءات الأمنية علي الحدود قائلاً "إن إصلاحاً شاملاً سيساعد بلدينا علي تسخير قواتنا ومواردنا خدمة لأمننا ورخائنا". ويري عدد من المحللين أنه من غير المرجح أن يعرب فوكس عن تأييده لبناء جدار علي الحدود. غير أن مراسلات من حكومته وزعماء الأحزاب المكسيكية إلي واشنطن مؤخراً لمحت إلي إمكانية بناء جدار من نوع خاص، حيث شرحت الحكومة المكسيكية في مارس الماضي، إلي جانب زعماء المؤسسة السياسية ورجال الأعمال، في وثيقة نشرتها ثلاث من كبريات الصحف الأمريكية موقفها إزاء إصلاح الهجرة. ومما جاء في تلك الوثيقة أنه في حال التزمت الولاياتالمتحدة بخلق قنوات قانونية لتدفق العمال المهاجرين، فإن المكسيك ستتخذ جملة من التدابير التي تروم ثني أفراد شعبها عن المغادرة بشكل غير قانوني