قبل أن أدخل فعلا إلي مبني المنتدي في واشنطن، الذي عقد يومين من المداولات حول مستقبل الشعب اليهودي في ضوء المائة سنة التي مرت علي تأسيس المنظمة المضيفة (اللجنة اليهودية الأمريكية)، تأكد لي أن ذلك التعاطف العميق والطبيعي الذي كان لأقسام واسعة من يهود أمريكا مع جدول الأعمال الإسرائيلي، بات يتضاءل جدا في السنوات الأخيرة. وقد وافق كل المشاركين في المداولات بعد ذلك علي أنه منذ سنوات تتعاظم عملية الانقطاع التدريجي ليهود أمريكا عن إسرائيل. وأسباب ذلك كثيرة ومركبة وتتعلق أيضا بحقيقة أن الدراما الإسرائيلية فقدت الكثير من ملامحها الجذابة لدي اليهود الأمريكيين، وكذلك لسيرورة الاندماج السريع بمستويات مختلفة في أمريكا ذاتها. ورغم أن موضوع المنتدي كان المستقبل في ضوء ماضي السنوات المائة الأخيرة" فقد كنت الوحيد، ربما، الذي استهل كلامه بالحديث عن فشل أغلبية الشعب اليهودي بالتنبؤ في القرن العشرين بعمق الاعتراض عليه وشدته، وهو ما قاد في نهاية المطاف إلي إبادة لم يشهد لها التاريخ الإنساني مثيلا لها. فالكثير من "النصوص اليهودية"، التي يري فيها الكثير من اليهود رمز هويتهم، لم تساعدنا في فهم أفضل للسيرورات الواقعية المحيطة بنا. فقد انشغل اليهود أكثر من اللازم بالميثولوجيا والثيولوجيا بدلا من التاريخ، ولذلك فإن أمورا بسيطة قالها جابوتنسكي ورفاقه في مطلع القرن العشرين. "إن لم نقض علي الشتات فإن الشتات سيقضي علينا". وقعت علي آذان صماء. بعد احتلال البريطانيين للبلاد عام 1917 منح وعد بلفور لليهود وطنا قوميا، ولو أنه طوال العشرينيات، حينما كانت أبواب الهجرة مفتوحة علي مصراعيها، وصل إلي البلاد نصف مليون يهودي (أقل من خمسة في المائة من الشعب اليهودي في ذلك الحين) بدلا من العدد الضئيل الذي وصل فعلا، لكان ممكنا بالتأكيد إقامة دولة يهودية قبل الكارثة النازية علي قسم من أرض إسرائيل. وكان بوسع تلك الدولة ليس أن تحسم الصراع العربي الإسرائيلي في وقت مبكر وبقدر أقل من الدماء، وإنما كذلك أن تمنح ملجأ مدنيا في الثلاثينيات لمئات آلاف اليهود من شرق أوروبا، الذين شعروا بالعاصفة القادمة، الأمر الذي كان سيقلص عدد ضحايا الكارثة النازية. الحل الصهيوني إن الحل الصهيوني، الذي ثبت أنه الحل الأصوب للمسألة اليهودية قبل الكارثة، تم تضييعه بشكل مأساوي بأيدي الشعب اليهودي. ولولا تلك القلة (أقل من نصف واحد في المائة من الشعب اليهودي) الذين آمنوا وجسدوا عمليا قبل مائة سنة الحاجة إلي تطبيع سيادة الشعب اليهودي في وطنه القديم، لوجد الشعب اليهودي نفسه بعد الحرب العالمية الثانية الفظيعة تائها فقط بين متاحف ذكري المحرقة، حتي من دون قطة الوطن السيادية التي ما زالت توفر نوعا من العزاء من الكارثة التي وقعت. ولكن حسابا للنفس ثاقبا وشديدا كهذا من منطلق صهيوني قديم ومتآكل حول تبديد مؤلم ومأساوي للفرصة في القرن الفائت، ليس مرغوبا فيه في افتتاح احتفالي لمؤتمر منظمة يهودية، والتي مع منظمات يهودية أخري، تنكرت، إن لم تكن عارضت فعليا، في مطلع القرن العشرين الحل الصهيوني. إذ من الأفضل حينها الحديث عن جوائز نوبل والهيبة التي نالها اليهود في القرن الماضي، وعن الإنجازات الروحية لفرويد وآينشتاين وعن الإسهام الكبير لليهود في الثقافة الغربية. ولذلك، فإنني من البداية شعرت أنني أخرب الأجواء الطيبة والمريحة بغضبي. وبدلا من الانخراط في الروحانيات الرائعة للهوية اليهودية، والنهضة الحضارية في أمريكا، والفرحة من النصوص التي يجب أن نتعلمها والقيم اليهودية التي يجب أن نحفظها عن ظهر قلب، حاولت مع ذلك رسم حد، علي الأقل مبدئي، بين ماهية الهوية اليهودية في إسرائيل والهوية اليهودية في الشتات. وهذا ليس بالعمل الهين في أيام كهذه. كما أن إسرائيليين كثيرين لا يتفقون معي. فالمفاهيم الصهيونية الأساسية تم طحنها بدقة ولم تعد ظاهرة للعيان في داخل طبيعية الحياة السيادية، أو أنها انخرطت بشكل مشوه ومريع داخل أيديولوجيا يمينية فاشية أو ضمن راديكالية ما بعد الحداثة. وهنا نشأ الخلاف بيني وبين جمهرة المستمعين (بالمناسبة ليسوا جميعا. بل أن جزءا منهم، وخاصة من اليهود الذين كانت لديهم درجة من التجربة الإسرائيلية، جاءوا إلي بعد انتهاء النقاش ليعربوا عن تماثلهم العميق مع أقوالي). رفض الشتات لم أتحدث عن "رفض الشتات". فالشتات اليهودي قائم منذ سبي بابل، قبل 2500 سنة، وهو سيواصل الوجود إلي آلاف السنين في المستقبل. فالشتات هو الحقيقة الوحيدة الأشد صلابة في التاريخ اليهودي، ونحن نعرف ثمنه، وإنجازاته وإخفاقاته في استمرارية اليهودية كما نعرفها. فالنصوص الأشد رفضا للثيولوجيا توجد مبعثرة في قلب النصوص الدينية الأشد داخلية، ولا حاجة لروائي إسرائيلي بالذهاب إلي واشنطن للحديث عن رفض الشتات. إن كل التقارير التي أشارت إلي أنني قلت إنه لا وجود لليهودية إلا في إسرائيل، تقارير سخيفة تماما. فهل يخطر ببال أي إنسان أن يقول قولا سخيفا كهذا. ليس الشتات وإنما إسرائيل هي التي يمكن أن تكون فصلا هاما في التاريخ اليهودي، ومن هنا كان حافزي لتكرار حقائق قديمة وبسيطة، يبدو أن لا مناص من تردادها مرات ومرات. وليس فقط في آذان يهود الشتات وإنما أيضا في آذان الإسرائيليين. الهوية اليهودية إن الهوية اليهودية في إسرائيل، والتي نسميها الهوية الإسرائيلية (بخلاف المواطنية الإسرائيلية التي تضم أيضا المواطنين العرب، الذين يعيشون هم الآخرين في الوطن المشترك، والذين يحملون هوية وطنية فلسطينية)، هذه الهوية الإسرائيلية اليهودية تتصارع مع كل مقومات الحياة عبر إطار ملزم وسيادي لدولة تقع في منطقة محددة. ولذلك فإن حجم تجسيدها في الحياة هو مليء وواسع وجوهري بشكل أكبر بما لا يقاس من يهودية يهودي أمريكي، الذي تتخذ القرارات الحاسمة والهامة لحياته في إطار وطنيته أو مواطنيته الأمريكية. فيهوديته هي إرادية وبوسعه تحديد شحنتها وفق احتياجاته. ونحن في إسرائيل نعيش في علاقة ملزمة ومفروضة أحدنا تجاه الآخر. مثلما يعيش كل أبناء الشعوب الأخري ذات السيادة ضمن علاقات ملزمة. والذين يحكموننا يهود. ونحن ندفع الضرائب ليهود، ونحاكم في محاكم يهودية، ويتم استدعاؤنا للخدمة في جيش يهودي، ويتم إرسالنا إجباريا من جانب يهود للدفاع عن مستوطنات لم يكونوا يريدونها، أو علي العكس، ونخلي بالقوة مستوطنات بأيدي يهود. إن من يقرر اقتصادنا يهود، كما أن الظروف الاجتماعية يحددها يهود، وكل القرارات السياسية، الاقتصادية، الثقافية والاجتماعية التي تنتج وتبلور هويتنا، رغم أن فيها عناصر أولية، كانت دائما في سيرورة متحركة من التغييرات والتعديلات. وثمة في هذه الحقيقة آلام وإحباطات ولكن فيها أيضا استمتاع بحرية أن تكون في بيتك. إن الوطن واللغة القومية والإطار الملزم هي مقومات أساسية في الهوية الوطنية لكل شخص. لذلك فإنني لا أستطيع الإشارة إلي إسرائيلي واحد مندمج، مثلما لا يوجد في فرنسا فرنسي مندمج. (الاندماج تعبير يطلق علي اليهود الذين ينخرطون في المجتمعات التي يعيشون فيها ولا يرون أنهم شيء مختلف عن الآخرين ح. م).وحتي لو لم يكن قد سمع أبدا عن موليير ولم يزر أبدا متحف اللوفر، ويفضل عليها مباريات كرة القدم وسباقات الخيل. وما أردت توضيحه لمضيفي الأمريكيين، ربما بلغة قاسية وفظة أكثر من اللازم، هو، حيث عندي القيم اليهودية ليست قائمة في علبة عطور فاخرة نفتحها في أيام السبت والعطل لنستمتع برائحتها، وإنما هي واقع حياة يومية لعشرات المشاكل، التي فيها تتبلور وتحاكم القيم اليهودية خيرا أو شرا. كما أن اليهودي المتدين الإسرائيلي يواجه مشاكل في الحياة بحجم وعمق أشد وأكبر من تلك التي يواجهها زميله المتدين في نيويورك. فهل هذا يعني أنني أدين هويتهم الجزئية؟ إنني لا أدين ولا أمتدح. فهذا واقع لا يحتاج إلي مشروعية مني. مثلما أن هويتي لا تحتاج إلي مشروعية منهم. ولكن لأننا نري أنفسنا أبناء شعب واحد وهناك علاقة أواني مستطرقة بين الهويتين، اللتين تنزلق احداهما إلي داخل الأخري، ثمة ضرورة لتوضيح الصلة بينهما. وطالما أنه واضح لنا جميعا أن الهوية اليهودية الإسرائيلية تواجه سلبا أو إيجابا شمولية الواقع واليهود في الشتات يواجهون فقط أجزاء من ذلك، حيث إن في هذا التقدير علي الأقل النسبة ذاتها بين الكل والجزء. ولكن في اللحظة التي يضع فيها اليهود انشغالهم بدراسة وتفسير النصوص أو في نشاط تنظيمي لمؤسسات يهودية كأمر مساو لشمولية الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي نواجهه، فإن المعني الأخلاقي للصراع اليهودي التاريخي مع الواقع الكامل يفقد صلاحيته بل إن ذلك يوفر خيارا مريحا وسهلا للانزلاق التام من الكل إلي الجزء. وليس صدفة أن هناك اليوم أكثر من نصف مليون إسرائيلي يعيشون خارج إسرائيل. وإذا كان بوسع الهوية اليهودية تغذية نفسها عن طريق دراسة النصوص والحفر في الذكريات، والانشغال هنا وهناك بعمل جماعي، وطالما أن المبعوثين النشطاء من جماعة "حباد" يوفرون خدمات دينية ويهودية فورية في كل مكان علي وجه الأرض، فما هي المشكلة، في زمن العولمة، في أخذ الأطفال الإسرائيليين والهجرة إلي حيث التكنولوجيا المتطورة؟ فنواة الهوية أبدية ومتوفرة في كل مكان. الإسرائيلية لباس يمكن خلعه وهكذا تتحول الإسرائيلية في الوطن أيضا إلي لباس يمكن خلعه واستبداله وقت الضيق بلباس آخر، مثلما استبدلت الرومانية والبولندية بالإنكليزية والأمريكية ومثلما استبدلت التونسية والمغربية بالفرنسية والكندية. وفي المستقبل، بعد مائة عام أو مئاتان، عندما تغدو الصين القوة الأعظم، لماذا لا يحول اليهود أمريكيتهم وكنديتهم إلي الصينية أو السنغافورية؟ إذ لم يكن أحد يعلم في القرن السادس عشر أنه خلال مائتي عام أو ثلاثمائة سوف يتجمع اليهود في أرض مجهولة تسمي أمريكا. لقد أثبت اليهود قدرتهم علي الحياة في كل مكان طوال آلاف السنين من دون أن يفقدوا هويتهم. وطالما أن الأغراب لا يسيئون، فإن خلود إسرائيل لا يكذب. وإذا كانت الإسرائيلية مجرد لباس، وليس اختبار المسئولية الأخلاقية اليومية، سلبا أم إيجابا، للقيم اليهودية، فلا عجب في اتساع الفقر والفجوات الاجتماعية، وفي أن ازدياد الوحشية تجاه شعب يخضع للاحتلال صار سهلا ولم يعد يثير وخزات ضمير. إذ أن بالوسع دوما الهروب من الواقع نحو النصوص القديمة وتفسيرها بشكل يمنحنا العظمة، الأمل والعزاء. إن الأقلية القومية للفلسطينيين الإسرائيليين، الذين يعيشون بيننا، والذين يشاركوننا المواطنية الإسرائيلية، يمكن أن تسهم في هذه الهوية، مثلما يسهم اليهود الأمريكيون في الهوية الأمريكية العامة ويسهم الباسكيون في الهوية الأسبانية وسواها. وبقدر ما نكون أكثر إسرائيلية بقدر ما تكون شراكتنا معهم أفضل. وعندما نركز فقط علي الروحانية اليهودية وعلي النصوص، لأن الأساس هناك، بقدر ما يزيد الاغتراب بيننا. وأنا أثير دائما ومن جديد مسألة النصوص، لأن هذا غد مؤخر في الدوائر اليهودية الليبرالية الملجأ الأهم للهوية، علي شاكلة عودة العلمانيين المشهورين للكنيس، ليس من أجل العثور علي الله وإنما من أجل التمسك بالهوية. ولأنني تحديدا انشغلت طوال عمري بالنصوص، أكتب، أقرأ وأفسر، فإنني أثور علي الفصل الخطير وعديم المسئولية بين تعظيم النصوص وبين تصغير الحياة اليومية. ولذلك فإنني أدعو إلي إعادة صقل المفهوم الفعلي والمعاش ل "الوطن" بدلا من المفهوم المتآكل والغامض للروحانية اليهودية. في كل أسفار التوراة وردت كلمة "الوطن" اثنتان وعشرون مرة، وفي قسم كبير من المواضع كان الحديث يدور عن أبناء الشعوب الأخري. والجملة الأولي التي قيلت لليهودي الأول هي "اذهب، اذهب من أرضك ووطنك ومن بيت أبيك إلي الأرض التي أريك إياها". وقد جسد اليهود القسم الأول من هذا الأمر بإخلاص كبير طوال تاريخهم الطويل، فقد تنقلوا من وطن إلي آخر بسهولة مذهلة. ولا يجدر بنا هنا التذكير مرة أخري بالنهاية الفظيعة لهذا التجوال. وإذا كنا نريد أن لا يفقد الجوهر اليهودي هذا، بمساعدة من المتنافسين الفلسطينيين علي الوطن، الأرض التي تحت أقدامنا، يجدر بنا أن نوضح مرة تلو الأخري المفاهيم الأساسية القديمة، في آذان الإسرائيليين بشكل لا يقل عن اليهود الأمريكيين، الذين رغم تأذيهم مني، تعاملوا معي بأدب جم، ربما لأنهم في قرارة أنفسهم يشعرون أنني أقول قولا بسيطا ولكنه حقيقي"