المتأمل للمشهد السياسي الأمريكي والدور الذي يلعبه اللوبي الاسرائيلي والمنظمات اليهودية الأمريكية أحيانا ما يصل إلي قناعة مفادها أن جميع اليهود الأمريكيين هم جزء من المشروع الاسرائيلي.. لكن الواقع يتناقض كلية مع هذه الافتراضية والسبب في ذلك أن غالبية اليهود الأمريكيين هم ليبراليون وليسوا من المحافظين أي أن معظمهم يصوت للديمقراطيين وليس للجمهوريين الأكثر التزاما تجاه اسرائيل علي مدي عقود مضت. مفارقة مثيرة للدهشة استوقفت بعض اليهود المحافظين آخرهم نورمان بودورتز الأب الروحي للمحافظين الجدد الذي صدر له الشهر الجاري كتابا بعنوان "لماذا اليهود ليبراليون؟" يناقش فيه ظاهرة تحول الليبرالية لما يشبه الديانة عند اليهود لقدسيتها. بودورتز نفسه كان يساريا في صباه (عمره الآن 79 عاما) ورأس تحرير مجلة "كومنتري" اليهودية الأمريكية متحولا لليمين في السبعينيات وعمل باحثا بمعهد هدسون المحافظ وكان من الموقعين الأساسيين علي مبادئ مشروع القرن الأمريكي الجديد ثم حصل علي ميدالية الحرية من الرئيس السابق جورج بوش عام 2004، وهو يدعو في كتابه جموع يهود أمريكا بأن يبنوا معتقداتهم السياسية علي ما هو الأصلح لاسرائيل.. أي أن يدعموا الجمهوريين لتعاطفهم التاريخي مع اسرائيل ولا يلتفتون كثيرا لنقاط اتفاقهم مع الديمقراطيين في القضايا الداخلية مثل الاجهاض وحقوق الشواذ واقامة الصلوات في المدارس، اذ يعتبر اليهود أكثر الجماعات ليبرالية في الولاياتالمتحدة. هذه النظرية التي يتغني بها هي فحوي ما جاء في كتاب "اللوبي الاسرائيلي" الذي كتبه جون ميرشايمر وستيفن والت أستاذي العلوم السياسية عام 2006، حين تحدثا عن الولاء المزدوج الذي يحمله يهود أمريكا فيضعون الولاياتالمتحدة واسرائيل علي نفس المستوي. يهود تقدميون لكن هذه النظرية لا تنطبق علي جميع المنظمات اليهودية الأمريكية بالطبع، فعلي سبيل المثال هناك حركة "جيه ستريت" وهي احدي هذه المنظمات اليهودية الليبرالية.. تسير عكس التيار.. عكس لجنة العلاقات العامة الأمريكية الاسرائيلية "ايباك" التي تعتبر ذراع اللوبي الاسرائيلي في الولاياتالمتحدة ووراءها عشرات المنظمات الأخري. وبالرغم من أنه لم يمر سوي عام واحد علي تأسيس حركة "جيه ستريت" التي تروج لأفكار تقدمية فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي، الا أنها اكتسبت شهرة واسعة بين اليهود الأمريكيين حتي أن ميزانيتها تضاعفت خلال الاثني عشر شهرا من كثرة التبرعات التي حصلت عليها فقفزت إلي ثلاثة ملايين دولار (لا مجال للمقارنة بالطبع مع ميزانية "ايباك"). هذه الشعبية جعلت "جيه ستريت" التي يتزعمها جيرمي بن عامي المستشار السابق للسياسة الداخلية في إدارة الرئيس بيل كلينتون، تنضم لمجموعة المنظمات اليهودية الأمريكية التي استقبلها الرئيس أوباما في البيت الأبيض لكي يستمع لآرائها حول صراع الشرق الأوسط وسط تصاعد الخلاف بين واشنطن وتل أبيب بسبب الاستيطان. تعد مواقف "جيه ستريت" جريئة تعبر عن رأي "الحمائم اليهود" خاصة في نقدها لاسرائيل بل انها تنتقد اليمين المتطرف والمحافظين الجدد بسبب هجومهم علي الادارة الأمريكية التي تهدف لإثناء أوباما عن مواقفه بخصوص الاستيطان وأطلقت حملتها تحت عنوان "التجميد يعني التجميد" Freeze means Freeze أي لا لمزيد من الاستيطان بدعوي التوسع أو النمو الطبيعي، الا انها في نفس الوقت تتمسك بالثوابت التي لا خلاف حولها بين اليهود وهي أن اسرائيل يجب أن تبقي دولة يهودية ديمقراطية. لا تقف "جيه ستريت" وحدها بالطبع في معسكر حمائم اليهود الأمريكيين ان جاز التعبير، فهناك أيضا منتدي السياسة الاسرائيلي وغيرهما.. والمأمول الآن هو أن تستطيع هذه المنظمات أن تقوي في عهد أوباما. مصلحة إسرائيل هي الأهم نورمان بودورتز.. أو الأب الروحي للمحافظين الجدد لخص رسالته من الكتاب التي يبعث بها ليهود أمريكا قائلا: "كيهودي انتقل من اليسار لليمين منذ أكثر من أربعة عقود، كنت آمل لعدة سنوات أن يري أصدقائي اليهود ما يناقض الوضع الذي كان في السابق وهو أن أصدقاءنا الحقيقيين ليسوا الآن في أوساط الليبراليين وانما في أوساط المحافظين". مرجع هذه الأمنية هو أن مواقف اليسار تجاه اسرائيل تزداد برودة بمرور الوقت بينما يزداد الحزب الجمهوري تقربا وصداقة، الا أن المعضلة بالنسبة لبودورتز تكمن في أن غالبية اليهود الأمريكيين لا يبدون مبالاة بقضية اسرائيل. يسرد المؤلف في النصف الأول من الكتاب المظالم التي تعرض لها اليهود في العصور الوسطي وحتي القرن العشرين وانعكاساتها علي توجههم اليساري لأن الليبراليين كانوا أكبر حلفاء لليهود فيما كان المحافظون هم ألد أعدائهم، لكن الوضع تغير بعد حرب 67 ولم تعد اسرائيل تؤدي دور المظلوم كما يري الكاتب، ولهذا فانها وجدت حلفاءها علي اليمين بينما تعاطف الليبراليون مع الفلسطينيين وكانوا من أشد المنتقدين لاسرائيل حتي ان بعض المحافظين الجدد يؤمنون بأن الانجيليين بشكل عام هم أكثر دعما لاسرائيل من اليهود الأمريكيين. وان كان ذلك هو ما يؤمن به بعض المحافظين الجدد من المسيحيين بالفعل، فإن بودورتز لم تفته حقيقة أن المسيحيين المؤيدين لاسرائيل ليسوا بالضرورة مؤمنين بحلم الدولة اليهودية؛ فبعضهم يري في اسرائيل تمهيدا لعودة المسيح عليه السلام، لكن ذلك لا يهم الأب الروحي للمحافظين الجدد الذي يكترث فقط للأفعال وما عمله هؤلاء من أجل اسرائيل وليس لأحاسيسهم كما يعترف. ويستطرد: ان الرئيس السابق ريتشارد نيكسون الجمهوري كان يتميز بمعاداة للسامية من نوع خاص تشمل اليهود الليبراليين فقط. ولاء تاريخي لل "حمير" كتاب بودورتز ينقل لك دهشة مؤلفه عند سرد بعض الأرقام الدالة علي مدي الدعم الذي حظي به الحزب الديمقراطي من اليهود خلال العقود الماضية والتي ظلت منذ عام 1928 تظهر أن 75٪ من اليهود يصوتون للحزب الديمقراطي (وهي النسبة الأكبر لأي جماعة عرقية أو دينية)، آخرها كان في الانتخابات الرئاسية الماضية التي حصل فيها الرئيس باراك أوباما علي 78٪ من أصوات اليهود الأمريكيين (وهي النسبة الأكبر أيضا باستثناء الأمريكيين الأفارقة).. أي أنه لم يحدث التغيير الذي توقعه بودورتز وهو تحول اليهود عن الديمقراطيين بسبب اسرائيل وبسبب ما عايشوه مع ادارة بوش وهو ما قالوه في استطلاعات الرأي، مما جعله يعتقد أن فرص جورج ماكين في الفوز أكبر من خصمه خاصة بعد كشف علاقة الصداقة الوطيدة بين أوباما ورشيد خالدي أستاذ دراسات الشرق الأوسط الفلسطيني الأصل. أما في الجزء الثاني من الكتاب، فيحاول المؤلف تفسير ارتباط اليهود الأمريكيين بالتفكير الليبرالي شارحا أنه قد يكون نتاج تاريخ اليمين الطويل في الاضطهاد والعنصرية والذي يتحمل فيه التيار المحافظ تبعيات معاداة السامية أو لأن اليهود العلمانيين يكونون ليبراليين بطبيعتهم أو بسبب ما يردده بعض العلماء عن احتمالية أن يكون اليهود ليبراليون جينيا علي الرغم من أن اليهودية كدين ليست ليبرالية لأنها تحرم الشذوذ الجنسي ولديها نظرة محافظة فيما يتعلق بدور المرأة وهو ما يتبناه اليهود الأرثوذكس، كما يقول بودورتز. الليبرالية .. دين اليهود الجديد وفي حلقة نقاشية نظمتها مجلة "كومنتري" اليهودية الأمريكية للحديث عن كتاب بودورتز، أدلي عدة مفكرين يهود أمريكيين بدلوهم في مسألة الوقوف علي أسباب ليبرالية اليهود في الولاياتالمتحدة. ديفيد وولب حاخام معبد يهودي محافظ فسر ذلك بأن الليبرالية أصبحت كالديانة التي حلت محل الديانة اليهودية في قلوب اليهود، فيما تساءل جوناثان سارنا أستاذ التاريخ اليهودي الأمريكي بجامعة برانديس الأمريكية عن الفارق الهائل في الانتماء للتيار الليبرالي في أوساط اليهود؛ فبينما تسود الليبرالية بين جموع اليهود الأمريكيين لا يبدو أنها تحظ بنفس البريق لدي اليهود غير الأمريكيين؛ فيهود بريطانيا تحولوا لليمين مؤخرا مفضلين المحافظين عن العمال بسبب دعم حزب العمال للمواقف العربية منذ السبعينيات مما أدي إلي هجر اليهود لهم، وان كان أي من الحزبين لا يستطيع أن يزعم أن اليهود في صفه، كما أن اليهود في كندا وأستراليا يميلون للتيار المحافظ أكثر. ويفسر سارنا هذه الحالة الخاصة التي يجد عليها اليهود الأمريكيون أنفسهم بالقول ان حركة اصلاح اليهودية أقوي في الولاياتالمتحدة أكثر من أي بلد آخر والارتباط بها يعني الارتباط بالفكر الليبرالي أي أن الأصوات الانتخابية لهؤلاء اليهود تذهب للمعسكر الديمقراطي، أما العامل الثاني فهو أن جنوح اليهود في انجلترا وأستراليا وكندا نحو اليمين كان ردا علي مواقف الليبراليين المعادية لاسرائيل بينما الليبراليون في أمريكا لا يعادونها فيما عدا استثناء وحيدا حدده في جيمي كارتر. في الحلقة النقاشية التي نظمتها مجلة "كومنتري"، خرج مايكل ميدفيد مقدم برنامج اذاعي وهو من اليهود الأمريكيين برأي جريء قائلا ان كثيرا من اليهود الأمريكيين يعتبرون أن جوهر هويتهم اليهودية هو رفض المسيحية وليس التضامن مع اسرائيل، بما يعني أن الفيصل في توجهاتهم هو موقف هذا المرشح أو ذاك من اليمين المسيحي ولهذا يبتعدون عن المحافظين. احصائيات مركز بيو للأبحاث تشير إلي أن اليهود هم أقل الجماعات تدينا في الولاياتالمتحدة قد تدعم هذه الافتراضية، فهناك 16٪ فقط من اليهود يصلون مرة كل أسبوع علي الأقل مقارنة ب 39٪ من الأمريكيين بشكل عام. بودورتز ينهي كتابه بحلم يتمني أن يشهد تحقيقه وهو أن يدرك اليهود الأمريكيين من الذي يمثل مصالحهم ومبادئهم بشكل أكبر لينحازوا إلي معسكر اليمين ويهجرون الديمقراطيين لصالح الجمهوريين.