في الأيام الماضية، اتهم بعض المنتقدين الرئيس بوش ورئيس موظفيه الجديد "جوشوا بولتن"، بأنهما لا يفعلان شيئاً سوي تغيير مقاعد سفينة "تيتانيك" الغارقة، وذلك بتبديلهما للمناصب وتعيين وطرد عدد من كبار مسئولي البيت الأبيض، في الوقت الذي تواصل فيه شعبية بوش انحدارها إلي القاع. لكن في اعتقادي الشخصي، أن هذا الاتهام غير عادل البتة، ولا يليق بقبطان سفينة "تيتانيك" الشهيرة. والاختلاف بين بوش وذلك القبطان، أن الأخير كان مدركاً لهدفه واتجاهه مساره، غير أن مراقبيه لم يلحظوا رأس جبل الجليد، الذي كان مخبأً تحت سطح المياه التي تمخرها السفينة، إلا بعد فوات الأوان. أما هذه الإدارة وقبطانها، فقد علما معاً أين موضع ذلك الجبل الجليدي منذ عدة سنوات ممثلاً فيما يعرف ب "الاعتماد علي النفط الخام الأجنبي". لكن علي رغم ذلك، فقد واصلت سفينة بوش الإبحار باتجاهه غير عابئة بالخطر، وغير مكترثة باستنهاض همم الأمريكيين وقيادتهم إلي ما يمكن أن يضع بلادهم في مسار آخر من مسارات الطاقة، غير مسارها الكارثي الحالي. ولكي لا نطلق القول علي عواهنه، فما هو جبل الجليد هذا الذي يترصَّد في وجوهنا مباشرة؟ وللحقيقة فقد أصبحت الطاقة في معناها الواسع الأعم، هي التحدي الأكثر أهمية من الناحيتين الجغرافية الاستراتيجية والجغرافية الاقتصادية، بين كل ما يواجهه عالمنا الحالي من تحديات. وتضاهي أهمية هذا التحدي، ما كان عليه الاتحاد السوفييتي السابق، لأربعة أسباب مختلفة نبينها كما يلي: أولها، أننا نمول طرفي النزاع في حربنا علي الإرهاب الدولي: إنفاقنا علي قواتنا العسكرية من عائدات الضرائب وجيوب المواطنين الأمريكيين، ثم تمويلنا لبعض المتطرفين الإسلاميين والحكومات المتشددة، بما توفره لهم عائدات مشترياتنا من النفط. والثاني، أنه يتوقع أن يؤدي استمرار اعتمادنا علي منتجات الطاقة الأحفورية، إلي تسريع وتائر التغير المناخي، في عصر يقود فيه الملايين من المستهلكين الجدد في كل من الهند والصين السيارات ويزداد شراؤهم للبيوت المستهلكة للطاقة الأحفورية هي الأخري. وللسبب عينه، فإن المتوقع لمنتجات الطاقة البديلة، وصناعة السيارات وبناء المنازل وتصنيع المعدات ذات الكفاءة في استهلاك الطاقة، أن تمثل أهم نمو صناعي يشهده قرننا الحالي. وكلما فرضنا معايير صارمة علي شركاتنا، كلما أصبحت هيمنتها صناعياً علي هذا القرن احتمالاً مرجحاًوالسبب الثالث، ونتيجة للارتفاع الجنوني لأسعار النفط العالمي، فإن ما بدا لنا في وقت ما، وكأنه موجة عاتية متصلة من الأسواق الحرة وحرية الشعوب والأمم لحظة انهيار حائط برلين، ربما ينسد مجراها وتتعثر الآن، بسبب الموجة المضادة التي تقودها الأنظمة الشمولية النفطية، سواء كانت إيران أم فنزويلا أم روسيا أم نيجيريا أم السودان. وقد تراكمت لدي هذه الدول ثروات هائلة من الدولار النفطي، تمكنها من فعل أسوأ ما تستطيعه، ولأطول مدة زمنية ممكنة. وفي مقدور هذه الدول تسميم مناخ وأجواء ما بعد الحرب الباردة، ما لم نتمكن نحن من خفض أسعار النفط الخام العالمي. رابعاً وأخيراً: هيهات لنا أن نبذر بذرة الديمقراطية في العراق والعالم العربي بأسره، ما لم نتمكن من خفض أسعار النفط. فما من سبيل لهذه الأنظمة العربية أن تتغير، إلا في حال اضطرارها لذلك وحملها عليه. وما لم نفتح عيوننا جيداً، فلن يكون العراق سوي دولة عربية أخري، تلقي بثقلها التنموي كله علي آبار النفط، بدلاً من تنمية الشعوب وتأهيلها للمنافسة. ومن الأحري القول إن نقطة بداية القيادة بالنسبة للرئيس بوش هي قول الحقيقة لمواطنيه: لا تخص أزمة الطاقة الراهنة هذه آباءكم بل تخصكم أنتم. وإن كانت قد ارتفعت أسعار النفط العالمي، فليس مرد ذلك إلي جشع شركات النفط العالمية فحسب، وإنما يحدث ذلك بفعل تغيرات هيكلية تشهدها سوق الطاقة العالمية. ومن شأن هذه التغيرات أن تلقي بآثارها السلبية بالغة الضرر، علي أمريكا والعالم بأسره، فيما لو لم نتصد لها علي النحو الأشمل والأعم. وتحقيقاً لهذا الهدف، فمن الضروري أن نحافظ علي أسعار جالون البنزين والديزل في محطات الوقود، في حدود نحو أربعة دولارات، أو أن نفرض من الضرائب ما يجعل السيارات عالية الاستهلاك غير مرغوب فيها، في مقابل رفعنا لجاذبية السيارات المهجَّنة والصغيرة. أما إذا أردنا جعل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح و"البيوماس" أكثر جاذبية، فإن ذلك يقتضي رفعنا لأسعار الجازولين، وليس خفضها. وفي مقدور الرئيس بوش، الدفع في اتجاه إجازة "قانون خيارات الوقود للأمن الأمريكي" المعروض الآن أمام الكونجرس. ومن أهم مزايا هذا القانون، نصه علي ضرورة تمتع السيارات بمرونة الوقود، علي أن تكون السيارة قادرة علي استهلاك غازي الإيثانول والميثانول، إلي جانب الجازولين. كما يسرّع القانون عملية الإنتاج التجاري للسيارات المهجَّنة، التي تمزج بين استخدام الجازولين والكهرباء، بحيث تتمكن من قطع مسافة 100 ميل بكل جالون. وفوق ذلك، سيوفر القانون نفسه ضمانة لصناعة السيارات في ديترويت، لتوجيه خطوط إنتاجها في هذا الاتجاه. وفيما لو تصدي الرئيس بوش لهذا التحدي، وتمكن من توحيد إرادة الجمهوريين والديمقراطيين في هذا المجال، فإنني علي يقين بأن حزباً ثالثاً جديداً سيشارك في انتخابات عام 2008، ربما تحت اسم "الحزب الجغرافي الأخضر"، ويتوقع له انتزاع أصوات الكثيرين من الناخبين الوسطيين، بينما يكون المليونير الجديد "روس بيرو"، مليونيراً أخضر هو الآخر.