قامت الدنيا ولم تقعد في مصر في أعقاب الكشف عما سمي بوثيقة الحقوق الدينية، وكان الضجيج كافيا في الأزهر إلي الدرجة الذي وصل فيها الأمر إلي مجلس الشعب. وفي حدود ما نشر فإن القصة تعود إلي قبل عام عندما وقع الأزهر وثيقة مع عدد من الكنائس العالمية بحيث يتاح من خلالها التبشير المتبادل فيكون من حق المسلمين الدعوة إلي الإسلام في البلاد الموقعة كما يكون من حق القساوسة الدعوة في مصر. ولكن الضجة المصرية _ كما هي العادة _ جرت بنفس الطريقة التي تجري بها الأمور حيث تم إسقاط الشق الإسلامي من القضية وتم فيها التركيز والتشهير بالجزء الآخر المسيحي بحيث بدا الأمر كما لو كان هناك غزوة دينية جديدة للبلاد تحتاج للصمود والتصدي وتمزيق الوثيقة التي تم التوقيع عليها. ومن المؤكد أن هناك من هو أكثر مني علما بالموضوع، كما أن ما نشر ليس غنيا بالتفاصيل، ولا شك أن هناك أسسا وقناعة لقيام علماء أفاضل من الأزهر الشريف بالتوقيع علي هذه الوثيقة، ولكن ما يعنيني هنا هو المعني السياسي لتناول الموضوع والذي تحول إلي حالة من الهستيريا بعد " اكتشاف " التوقيع الأزهري علي قاعدة تقوم علي التبادل. فمن الواضح أن أحدا من المحتجين لم يذكر مرة واحدة إمكانية توقف التبشير الإسلامي في حالة وقف التبشير المسيحي، وإلا حرم الإسلام كله من توجهه العالمي؛ ومعني ذلك هو إباحة الحركة الإسلامية في البلدان المسيحية ولا تحدث الحركة المسيحية في البلدان الإسلامية. وفي عصر كذلك الذي نعيش فيه، وحيث تتساوي الرؤوس بين البشر، فإنه يستحيل قبول هذا المنطق. مثل هذه المنطق علي الأرجح أنه يجري وفق قواعد سابقة لم تعد متاحة حاليا، فاعتمادا علي الديمقراطية التي تذخر بها البلدان الغربية، وغياب التقاليد الحاجزة للبعثات التبشيرية المسيحية والإسلامية في بلدان مختلفة في آسيا وأفريقيا، كان بوسع البلدان الإسلامية التبشير دون اشتراط التبادل والمساواة. وبالفعل فإن ما جري خلال العقود الماضية هي أن الإسلام كان أسرع الديانات السماوية انتشارا في أمريكا الشمالية وأوروبا وأفريقيا وآسيا، وكان ذلك جزئيا راجعا إلي عامل المواليد والهجرة، ولكن التبشير واعتناق الدين كان له نصيب ملحوظ. مثل هذا الوضع لم يعد مواتيا الآن علي ضوء عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر حيث أصبح الشك هائلا في الجماعات الدينية الإسلامية المختلفة، واختلطت الأوراق بشدة بين ما يعتبر دعوة لاتباع الطريق الإسلامي لمن اختار ورضي، ودعوة لفرض الدين عن طريق " الغزوات " والإرهاب. وفي مثل هذه الحالة فإن الدعوة الإسلامية كانت هي التي سوف تستفيد من تقنين علاقات الدعوة والتبشير ووضعها في وثائق واضحة لأنها ليس فقط سوف تعطي تصريحات التبادل، وإنما لأنها أيضا سوف تعفيها من اتهامات غير منظورة. ولكن القصة لا تنتهي هنا فنحن لا نتصور فقط إمكانية وجود معاملة غير متساوية، ولكن لا نتصور معها حالة من التفوق الخاص الذي يجعل ذلك بديهية من البديهيات. وفي مجلس الشعب جرت كثير من المناقشات التي لو قيلت في بلد من بلاد العالم الأخري بصدد الدين الإسلامي لانفجر العالم الإسلامي كلها عن بكرة أبيه صياحا وغضبا علي عدم احترام الأديان والعقائد والثقافات. وكم كان مدهشا ذلك الذي دار في البرلمان المصري عن " الشعوب الوثنية " وغير المتحضرة والتي تنتظر يد البعثات الأزهرية لكي تقودها إلي الطريق القويم. فنحن لا نعرض الإسلام لمن شاء أن يؤمن، ونحن لا نعرض نموذجا تنمويا خارقا للعادة يجعل آخرين يعتقدون أن النمط الثقافي الإسلامي يحفز علي التقدم والإبداع، وإنما نعرض الإسلام كقوة فوقية فاتحة. مثل هذه الصورة ليست من مصلحة الإسلام والمسلمين قط، فربما كان الأمر يحتاج إلي قدر غير قليل من التواضع؛ وبالطبع فإنه من حق المؤمنين المسلمين الفخر بدينهم والاعتقاد فيه، ولكن الحديث بطريقة تدل علي التفوق الخاص هو من الأمور المنفرة التي تبعد ولا تقرب. ويزيد المسألة تعقيدا أن الدول الإسلامية في العموم ليست في هذه المرحلة التاريخية في أبهي حللها، فهي ليست الأقوي اقتصادا، وليست الأكثر منعة، ولا حتي الأوسع عيشا أو الأطول عمرا وأشد صحة. وحتي وقت كتابة المقال لم تكن لجنة الشئون الدينية في مجلس الشعب قد اتخذت قرارا كما قالت الصحف بسحب توقيع الأزهر علي الوثيقة أو بإبقاء هذا التوقيع، ولكن المشكلة هي ما هو دور مجلس الشعب واللجنة الدينية في قضية تناولها الأزهر، وهل من بين كل القضايا الوطنية والمدنية لم يجد عضو مجلس الشعب من الإخوان المسلمين إلا قضية سبق أن تناولها خبراء في الشئون الدينية، وهل معني ذلك أن الأزهر أصبح خاضعا لمجلس الشعب تماما كما هو الحال مع المؤسسات الحكومية الأخري. أم أن المسألة هي التشكيك في قدرة الأزهر علي حماية الدين الإسلامي ونشر دعوته وجعل ذلك هو المهمة التي تقوم بها تنظيمات سياسية وربما عسكرية في يوم من الأيام. لقد اختلطت أمور كثيرة، فأغثنا يا مثبت العقل والدين !.