لا أظن أن الكلام عن السبيكة الوطنية غير القابلة للانصهار والنسيج الوطني غير القابل للتمزق بات كافيا بعد ما شهدته مدينة الإسكندرية من أحداث عنف طائفي. ومع أن حديث السبيكة والنسيج مازال مطلوبا كحد أدني يفيد في تبريد العقول والقلوب المتهيجة، إلا أن مخاطر حديث السبيكة والنسيج تتمثل في ميل أصحابه للاكتفاء به واعتباره خير المراد أو أقصي الممكن في زمن عز فيه الخيال وتصحرت فيه العقول. غير أن مصدر الخطورة الأكبر يكمن في احتمال أن يصدق أصحاب حديث النسيج والسبيكة أنفسهم، ويظنون أن الأمور بخير، وأن ما يحدث لا يزيد عن كونه زوبعة في فنجان، أو فقاعة هواء لن تلبث أن تنفجر دون أن تخلف أثرا. الأمور ليست علي ما يرام والأمة ليست بخير. هذا هو الاستنتاج الذي يجب الخروج به من الأحداث الأخيرة. فأحداث الإسكندرية ليست سوي الحلقة الأخيرة في مسلسل طويل بدأ قبل خمسة وثلاثين عاما في الخانكة. غير أن الجديد هو أن تواتر أحداث التوتر الطائفي بات أكثر سرعة، فبينما كان من الممكن أن يمر عام أو يزيد دون أن نسمع عن صدام طائفي مهم، فإن حدثا جديدا كبيرا بات يقع كل عدة شهور وربما أسابيع قليلة، وليست أزمات الكشح ودميانة والراهب المشلوح ووفاء قسطنطين سوي حلقات في مسلسل طويل تتوالي حلقاته بسرعة. بأحداث التوتر الطائفي الأخيرة في الإسكندرية يكون مسلسل التوتر الطائفي قد دخل في مرحلة جديدة. فالاعتداء علي المصلين في كنائس كانت تستعد لبدء موسم الأعياد، ثم رد فعل أجهزة الأمن علي هذا الاعتداء فجر مخزونا من الغضب والإحباط تركه أولي الأمر يتراكم بين الأقباط، فكان أن خرجت الرموز والشعارات الدينية وتصادمت بشكل صريح في الشارع، وتبادل عشرات الأشخاص قذف الطوب والزجاجات والاعتداء علي الممتلكات. ولأن كل هذا حدث في الإسكندرية وليس في قرية نائية في الصعيد أو الدلتا فقد أتيح لملايين الناس في مصر وخارجها رؤيته لحظة وقوعه، الأمر الذي أخرج الحدث عن كونه حادثا محليا جري في منطقة سيدي بشر بالإسكندرية ليصبح حدثا وهما وطنيا جديدا بامتياز. ومع أن مظاهر الاحتقان والتوتر الطائفي في مصر باتت متنوعة وظاهرة للعيان، فإن الوقوف عند المظاهر المتفرقة لا يجعلنا قادرين علي رؤية الصورة الكاملة، ونكون سمحنا للأشجار بأن تحجب الغابة الموجودة وراءها. فأصل المسألة هو أن القبطي المصري يعاني من درجة متزايدة من الاغتراب في الوطن، فمظاهر الاختلاف الثقافي التي تفرض عليه مشاعر الأقلية غير المرغوب فيها تملأ المجال العام في مصر، بدءا من مظهر وملبس الرجال والنساء، والطريقة التي يتحدثون بها، والرموز التي يضعونها علي سياراتهم، والأسماء التي يختارونها لمحلاتهم التجارية. فقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة انتشارا واسع النطاق للرموز الدينية في المجال العام، في الشارع ومحال العمل وأيضا في النقابات والإعلام، وهي الرموز التي تعبر عن التغير الثقافي وتحولات نظام القيم التي تمر بها مصر ضمن غيرها من البلاد الإسلامية التي تشهد صعودا لا تخطئه عين للتيارات الإسلامية بأشكالها المختلفة. وبينما يمكن اعتبار كل هذه المظاهر تعبيرا عن موجة إيمانية محمودة، إلا أن الأمور لا تقف عند هذا الحد، فظهرت مطبوعات وشرائط كاسيت وخطباء ودعاة من الهواة المنتشرين في عربات المترو ووسائل النقل العام يفتون بعدم جواز تهنئة المسيحي في عيده، وعدم جواز رد سلامه وحرمانية مصاحبته وكراهية تناول طعامه. فالأمر لم يعد قاصراً علي انتشار غير موجه للمشاعر الدينية وإنما بات قسما لا يستهان به من هذه المشاعر موجها بشكل خاص لكراهية الآخر والتعصب ضده والدعوة للانعزال عنه، أو في الحقيقة عزله، لأن الأغلبية لا تنعزل وإنما تعزل من هم في حكم الأقلية. وبعيدا عن مناقشة ما هو إيجابي وما هو سلبي في هذه الظواهر، فإن أي مراقب منصف لا بد له أن يلاحظ مشاعر الاغتراب التي يمكن أن يتركها هذا الانتشار الواسع النطاق للرموز الدينية علي المصريين من المسيحيين، فمصر التي عرفوها واندمجوا في سبيكتها ونسيجها منذ تكونت الوطنية المصرية وتبلورت في ثورة 1919 وشعارات تعايش الهلال والصليب ونموت نموت وتحيا مصر قد تغيرت، وأسس العقد الاجتماعي الذي جمع عنصري الأمة آخذة في التآكل. لقد كان من الممكن تعويض مشاعر الاغتراب التي يعانيها الأقباط في المجالين الاجتماعي والثقافي بحركة إيجابية في المجال السياسي، خاصة وأن مشاعر الاغتراب الاجتماعي والثقافي المتزايدة جعلت الأقباط يلاحظون ظواهر كثيرة كانت موجودة لوقت طويل، من نوع وجود الأقباط في مناصب معينة واللوائح المنظمة لبناء الكنائس، وأصبحوا يعطون لمثل هذه الظواهر مغزي سياسي لم يكونوا يعطونه لها في السابق. غير أن نخبة الحكم تقاعست عن الفعل الإيجابي في المجال السياسي، كما سبق وتقاعست عن الفعل الإيجابي في المجالين الاجتماعي والثقافي. فمنذ وصف الرئيس السادات نفسه بأنه رئيس مسلم لدولة مسلمة، ومنذ شبه نفسه بعمر بن الخطاب، ومنذ كاد يصبح مستحيلا نجاح قبطي في الانتخابات، وأخيرا مع الفوز الكبير لجماعة الإخوان المسلمين في انتخابات مجلس الشعب، استقر لدي الأقباط شعور بأن هذه الدولة ليست هي دولة سعد زغلول ومكرم عبيد وعدلي يكن ومصطفي النحاس مؤسسي الوطنية المصرية بسبيكتها ونسيجها، وأنهم إزاء دولة جديدة يحتاجون فيها لعقد سياسي جديد، وهو العقد الذي تخلفت نخبة الحكم عن التفكير فيه، ناهيك عن مناقشته وكتابته، مستسهلة حديث السبيكة والنسيج الذي تآكلت قواعده وجذوره. لا أظنني مبالغا إذا قلت أن عقارب الساعة باتت تشير إلي الحادية عشرة، وأن الفرصة المتاحة لنا للتحرك لم تعد طويلة، فعند انتصاف الليل تكون الصفحة انقلبت وفات الوقت. وأظن أيضا أن صعوبات الحركة الإيجابية السريعة في المجالين الاجتماعي والثقافي تحتم تحركا سياسيا سريعا يوازن الخلل ويحافظ علي السبيكة، ويمنحنا فسحة أطول من الوقت نعالج فيها مظاهر الخلل الأكثر عمقا. فهل يتحرك أهل الحكم هذه المرة؟