يكتب ابن خلدون "1332-1406" يقول أن ثمة بلدان لا يعرف القلق منها سبيلا إلي قلب السلطان لندرة الثورات فيها . ففي مصر مثلا لا تجد غير السيد المطاع والرعية المطيعة ". غير أن ستة قرون تفصلنا عن حديث عالم الاجتماع العربي الأشهر تؤكد علي أن كثيرا من المياه قد جرت في الوادي والسهل ، وغيرت من ملامح الحجر والبشر ، ومع أن ما ذهب إليه ابن خلدون من أن شعب مصر قليل الثورات صحيح لا بسبب جدلية العلاقة التي قال بها بين الراعي والرعية بل لأنه مشغول بالبناء لا بالسعي للفناء إلا أن القلق يجد طريقة اليوم لا لقلب السلطان فقط بل لقلوب كثر من المصريين من جراء الاستعلانات والاستعلاءات الدينية التي تحاول اختطاف روح مصر من بين أضلعها عبر حركات سياسية ابوكريفية منحولة . حينما يتحدث رئيس مصر عن المخاوف من جراء فصيل محظور فانه هنا لا يمثل السيد المطاع بل احسبه يعبر عن مخاوف قطاع واسع من الرعية سيما وان الأرض تهتز في منطقة الشرق الأوسط والرعد يتدحرج إلي ما بعد الأفق والاسوا لم يأت بعد . أما الخوف والقلق فمن جراء تنامي متزايد لتيار أشبه ما يكون بالإله جانوس اله الرومان صاحب الوجهين ، وجه براق لامع وأخر خفي ، يتجلي ذات مرة في استعراض عسكري يعكس جوهر مناف لمظهر . والتساؤل هل مصر حقا في خطر من جراء هذا المد الراديكالي المتنامي ؟ والي أي حد ومد يمكن أن يعيق عودة مصر إلي كتاب الأحياء ؟ المؤكد أن الناظر لخريطة المنطقة الشرق أوسطية يدرك وبجلاء أن هناك أيادي تعمل علي تقسيمه إلي معسكرين متقابلين لا يلتقيان بل يتقاتلان طوال الوقت يرفضان التعادل ويفضلان نصرا مطلقا لأحدهما وهزيمة ساحقة للأخر وما بين التقسيمات المطروحة تجري صراعات قليلها يظهر في العلن وكثيرها يضمر في السر والخفاء . وما بين الحروب القائمة وتلك القادمة يخشي المرء علي قادمات أيام مصر سيما وانه ما من احد قادر بالمطلق أن يجزم بان بوابة مصر الشرقية ستبقي في امن وأمان إلي الأبد وفي منطقة إقليمية يتسارع فيها البحث عن أسلحة الدمار الشامل ويكثر حديث الانتشار النووي وأصحاب المشروع يعلنونها صريحة غير مريحة " إذا اعتمدت الحكومات العربية علي نفوذ إيران لن تضطر إلي قبول ابتزاز أمريكا " كما قال المرشد الأعلي للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئ . هي إذن دعوة للتحلق حول إيران صاحبة المشروع السياسي الديني والتي تود لو قدر له أن يجد طريقة لقلب العوالم والعواصم العربية مستغلة ما يتوافر لها من تنظير فكري مشابه أو قريب معتمدة عليه وداعية إياه لإثارة القلاقل في وطن عرف كثيرا وطويلا بتدينه وسعيه للإله الواحد في زمن كان فيه الآخرون يعبدون النار . كانت مصر دائما هدفا لخصومها التاريخيين والعابرين والمستجدين وقد هيأت الظروف الدولية في السنوات الأخيرة ، السنوات التي عاني فيها العالم من طياشة الإمبراطورية الأمريكية المنفلتة علي حد وصف المؤرخ الأمريكي اريك هوبسبوم ، مناخا للقلاقل والاضطرابات عرف هذا التيار الدوجماطيقي كيف يستغلها . بدأت القصة بالرايات الفاقعة والاصوات الزاعقة المنادية بالديمقراطية ، حتي ولو جاءت في ثوب " الفوضي الخلاقة " كما قالت كونداليزا رايس ولما جاء حساب البيدر منافيا ومجافيا لحساب الحقل سكتت وزيرة خارجية أمريكا عن الكلام المباح ، غير أن ما لحق بمصر كان علي حق مزعجاأيما إزعاج وبخاصة بعد سنوات العمل في الخفاء وهاهي الفرصة للصعود علي السطح . والمقطوع به أن الهدف الأول لهذا التيار هو هدم الركيزتين الأساسيتين اللتين قدرتا لمصر عظمتها علي مر الأجيال أي خصوصية شعبها الثقافية وفي طليعتها أساليب التدين وتجليات الإيمان ودعم القاسم المشترك الساعي عبر غايات العقل ووسائل الوجدان والذي يتمثل اليوم في القول بالليبرالية وحقوق المواطنة . وخطورة التيارات الدينية علي الحياة في مصر إنما ينطلق من تجارب سابقة كان الاحتكام فيها إلي الفكر الالوهي كارثة قادت إلي الدمار والخراب ولم يقدر لأوربا علي سبيل المثال نهضتها الحديثة إلا يوم أن خلعت عنها الرداء الديني وجعلت ما لقيصر لقيصر وما لله لله " وليس هنا مقام التذكير بخطورة التضاد بين من يحكم بالمطلق ويسعي سياسيا في الأرض استنادا إلي نصوص وشرائع ونواميس إلهية مطلقة لا تقبل الجدل ولا يأتيها النقاش من أي سبيل وبين مجتمع عرف طوال عهوده بتنوعه العقائدي وفيه من لا يقبل بسير الأحداث علي هذا المنوال معليا القوانين الوضعية النسبية والتي فيها الجميع مواطنون لا ذميون مهما قيل خلاف ذلك من مبررات وأحاديث للاستهلاك الإعلامي . وساعة تنحو مصر جهة الدوجماطيقيات طريقا والثيؤلوجيات توجها وسبيلا تفقد مكونا من ابهي مكوناتها التي حافظت عليها عبر عصورها تفقد نموذج التسامح والتمازج الحضاري الذي خبرته عبر الزمان والمكان ويفقد المصري حالة التمدن والرقي التي ناضل من اجلها عبر سوات طوال . ولعل أفضل من وصف أزمة التيار الديني في مصر كان المفكر الدكتور إبراهيم شحاته في كتابه الخالد وصيتي لبلادي بقوله " لقد تخطي الأمر مطالبة الناس بالتمسك بدينهم وتعدي ذلك إلي حالات من التعصب والتشبح الديني حتي سادت في أماكن كثيرة من مصر أفكار تدعو أن يعيش الناس في الواقع في نهاية القرن العشرين علي ما كان عليه سكان شبة الجزيرة العربية في القرن السابع ، لقد انحسرت القيم التحررية في المجال الديني وفي غيره وسادت مظاهر في السلوك تعتمد علي أكثر التفاسير تشددا وأبعدها عن التلاؤم مع مقتضيات الحياة في مجتمع حديث" . والحاجة الحقيقية إلي أطروحات مصرية شافية وافيه للخلاص من آلام المخاض ، وبحال لا يمكن لأحد أن يدعي وصفة سحرية سيما وانه في زمن العولمة المتوحشة تتداخل الخيوط وتتشابك الخطوط إلا أن هذا لا يعني بدوره انه ما من أمل أو عمل فبالحقيقة يوجد في معين مصر الذي لا ينضب حلول تستلهم روح الماضي في بهائه وتتطلع من خلال عقول وسواعد أبنائها اليوم إلي المستقبل ،هذا المعين يقودنا من جديد إلي أفكار الإصلاح والتعديلات الدستورية المطروحة علي نواب الشعب والتي يرغب فيها البعض ويضرب عنها قسم أخر غير أنها تبقي في حد ذاتها ملامح حراك اجتماعي سياسي مهما كانت حظوظ نجاحاته أو إخفاقاته ، حراك يقود لتوافق بين السيد فلا يصبح مطاعا مطلقا وبين الرعية التي لا وقت لديها للثورة انطلاقا من فهما الواع أن الثورات لا تجلب سوي الدماء وان فلسفة التوافقات تقود الأمم والشعوب في أوقات الأزمات . وقد يقول قائل أنها فلسفة الإصلاح أو التغيير بالتقسيط أو بالتقتير وانه ما من ديمقراطية تمنح علي مراحل ؟ والإجابة انه في هذا الحال يكون الحديث عن ديمقراطية غناء لا وجود لها في عالم الواقع وحال اختزال الفعل الديمقراطي في صناديق الانتخابات تصبح الدولة الدينية اقرب منها للمدينة إذا استطاع أنصارها حشد جهودهم حتي دون إدراك الآخرين لما تعنيه عملية الاقتراع أو خصائص ومواصفات المقترع بينهم . وإذا خيرت كمصري بين بروسترويكا وجلاسنوست روسية وبين تعديلات متأنية مصرية تأخذ في حسبانها نسبة الأمية وحالة الجهل الثقافي والفكري المتفشية ، والأوضاع الاقتصادية التي تجاهد الأزمات ناهيك عن حالة التشيع الديني المنتشرة بما يستتبعها من احتقانات اختار دون أدني تردد التبديل والتعديل هادئ الايقاع الذي يمكن أن يجنب البلاد والعباد مخاطر الانهيار كما جري في المعسكر الشرقي من جراء الصدمة . مصر بالفعل تعيش حالة من المخاض وربما يحتاج الجنين إلي مجهود مضاعف من القائمين علي الأمر " لتخليص " المولود مما يلتف علي عنقه محاولا خنقه قبل أن يري النور هذا المجهود لن يقدر للراعي والسيد فقط القيام به دون عون ومدد من رجالات مصر ونساءها من مثقفيها وفنانيها ، من أقباطها برصيد كنيستهم المصرية التي اتخذت من العربية لغة الصلاة فأنجزت المقدمة الحاسمة لتعريب البلاد يوم دخل المصريون أفواجا في الإسلام ، ومن مسلميها الذين ضربوا أروع مثل للتعايش المشترك مع أقباطها رغم مكايد ودسائس المحتل عبر القرون حتي وان تحدث اللغة العربية ، جهد حاضر في ثنايا مصر عبر الزمان حتي في متناقضاتها الوجودية وفي حضارتها الممثلة بطبقات متراكمة طبقة فوق أخري وان لم ترتح إلي بعضها البعض دفعة وحدة غير أنها جميعها ترتاح علي البنية التحتية الفرعونية التي تكونت منها سبيكة غير قابلة للانصهار ، كما أنها تدرك جيدا ما يمكن أن يكون عليه الألم والندم حال القبول بأحادية فكرية حتي ولو كانت عقائدية فالمشهد يخالف تركيبتها الثيولوجية واحسب أن ما جري السنوات الماضية هو نفض للغبار عن تراثها الليبرالي وديمقراطيتها التي سبقت طويلا أصحاب الشرق الأوسط الكبير وداعمي الفوضي الخلاقة إلي أخر تلك الأفكار التي هي اقرب إلي البدع والهرطقات الدينية منها إلي الحقائق السياسية، نعم مصر الآن تسترجع وجهها الديمقراطي والذي هو اقرب إليها لان من أي وقت اخر ذلك لأنها قاربت علي الإجابة عن جوهر بحثها وهو أين تكمن هويتها الحقيقية وخياراتها الاصوب ؟ وحين يحدث ذلك ، وهو علي الأبواب سوف يتحقق لها بغير شك بعثها الموعود عن طريق توافق ديمقراطي وطني مصري بين السيد والرعية وبين الرعية بعضها البعض وسوف ينزاح القلق عن العقول والقلوب و ولتكتب اسمها من جديد في كتاب الأحياء بعدما عرفت طويلا عبر كتاب الموتي .