تنتابني حيرة بالغة عندما أطالع كثيرا من مقالات المرموقين بين مفكرينا وكتابنا حيث يكاد يختفي تماما طرح السؤال الأساسي في الموضوع وهو " لماذا " كان ما كان أو جري ما جري أو كان ذلك كذلك ؟. فهناك كثرة بالغة من الكتابات عن حالة " الاستخذاء العربي "، وحالة " الوصاية الدولية " علي القرار القومي، وحالة الفقر العربية، وحالة الجهل العربية، وحالة التخلف العربي، وحالة الهزيمة العربية، وهكذا دواليك تتعدد المشاهد المحزنة؛ ولكنها مع قسوتها الشديدة لا يعقبها أبدا إجابة عن سبب هذه الأحوال، والأهم سبب بقائها واستمرارها دون فعل مضاد حتي تكاد تتوقف عندها كل القوانين الطبيعية المعروفة في دول العالم الأخري والتي تجعل الناس ترد علي الهزيمة بالبحث عن أسباب النصر، وتحاول تجاوز الفقر بالبحث عن أسباب الغني، وتواجه الهيمنة بالبحث عن طرق لتفادي الهيمنة. فمن المؤكد أن ما يجري للعالم العربي يجري علي آخرين في الدنيا ولكنهم يتساءلون ويطرحون الأسئلة عن الأسباب، فإذا ما عرفوها يبحثون عن الطرق والوسائل التي تجعلهم يتجوزون أوضاعهم التعيسة والبائسة. وبالطبع فإنه توجد كثرة من النظريات والأسباب الجاهزة التي يشعر كثيرون بأنها بديهية وكافية لتفسير الأحوال وواضحة وضوح الشمس؛ فهناك نظرية المؤامرة الخالدة والجاهزة دوما لكي تفسر ذلك الذي جري وكان، ولكن مشكلتها دوما أنها تحيل إلي ما لا نعلم، وتضيف إلي ما نجهل جبالا شاهقة من الجهل، وفي النهاية وطالما أن ألمسألة من أولها إلي آخرها أمور سرية وخفية تجري بين قوي جبارة وعاتية فإنه لا يوجد ما يفعله المرء تجاه عفاريت وجان. وهناك نظرية التدخل الأجنبي، وهي مختلفة قليلا عن نظرية المؤامرة، وهي تجعل الحاضر امتدادا ميكانيكيا للماضي، وطالما عرف ما مضي الاستعمار فإن التاريخ يعيد نفسه بوحشية شديدة، وفي الوقت الراهن فإن الولاياتالمتحدة تحمل علي عاتقها كل الشرور التي حملها الصليبيون معهم ومن حملها من جاء بعدهم من أشكال إمبريالية أخري. وسواء كان الأمر مستندا إلي هذه النظرية أو تلك، فإنك لن تجد بعد ذلك وسيلة للتعامل مع ما جري لأن القوي المجهولة، والقوي المعلومة، لا يمكن الوصول لها والاقتراب منها. أحدث النظريات تحيل الموضوع كله إلي جماعة " الحكام العرب " الناشرين للاستبداد، والخاضعين للطغاة في أمريكا، والفاسدين المبذرين العاجزين عن التنمية، والخائفين المرتعدين أمام إسرائيل. وبالطبع فإن أحدا لن يسأل أبدا إذا كان ذلك كذلك لماذا لا تنشب الثورات، ولماذا لا يخرج الناس خفافا ثقالا لكي يحركوا الجمود، ويغيروا الكساد، ويرفضوا الظلم، ويمنعوا الجور. وبصراحة لماذا يقبل العرب أو غالبية العرب الأمر الواقع، وفي العالم العربي كله لا نجد إلا القليل من المظاهرات والنادر من الثورات والعارض من الاضرابات. وحتي عندما تداعي نفر للتغيير والتبديل فقد تحركوا في صورة انقلابات عسكرية لم يبق منها بعد الإطاحة بالملوك سوي أشكال جديدة _ وأشد قسوة _ من الاستبداد، وأنواع مختلفة _ وأكثر مهانة _ من الهوان والهزيمة. لماذا كان ذلك كذلك يظل سؤالا مطروحا بإلحاح مهما حاول تجاهله جماعة اللاطمين للخدود بصورة دورية فتصف لنا التخاذل العربي عند التعامل مع حماس، وعند توزيع الجوائز الدورية علي إسرائيل، وساعة انعقاد القمة العربية، وفي كل مرة يصدر فيه تقرير عن حالة العرب، وحينما يصبح ضروريا التعامل مع مستقبل العراق أو فلسطين. ولكن في الواقع يجري تجاهل السؤال ليس فقط بسبب الإرهاق الذي يمثله البحث فيه، ولكن لأن هناك خوفا دائما من الإجابات المزعجة التي قد تجبر الكاتب والقائل إلي هجرة موقع المحرض القائم بالتعبئة من أجل ثورة موعودة وغير مغدورة وتقوم علي حلم غامض لا يأتي أبدا. فالإجابة علي السؤال هي جزء مهم من عملية شاقة للبحث عن الحقيقة، ولكن الكاتب المحرض قد تخلي منذ وقت طويل عن مهمته في عملية المعرفة وبات جزءا من عملية الصراع السياسي القائمة علي التحريض والحشد والعقاب النفسي لمن يبقي بعيدا عن التأثر والانتظام في الصف. وما هو أقسي من هجرة الموقع السياسي يقع في احتمالات ظهور الحقيقة القائمة علي أن المعضلة واقعة في المجتمع العربي ذاته حيث توجد قدرة غير قليلة علي إنتاج الاستبداد، وقدرة لا تقل غزارة علي التهرب من العمل والاجتهاد والقبول المنافسة العالمية. وربما كان ذلك حادثا لأسباب تاريخية أو حتي جغرافية أو ثقافية لا يريد المثقف أبدا كشفها لأنه ساعتها سوف يضع فكرة أنه ينتمي إلي أمة ذات رسالة خالدة موضع التساؤل؛ بل من الجائز أن يشك في عما إذا كان جزءا من خير أمة أخرجت للناس. ولكن أخطر ما يخاف منه الكاتب والمثقف العربي، وربما الطبقة الثقافية والسياسية العربية كلها فهو خوفه من انكشاف مسئوليتها عما يجري، فهي لم تقد الأمة إلي معرفة حقيقية خاصة بأحوالها، وهي لم تشرح لها حقا موازين القوي وتوازنات المعرفة، وإنما دفعتها دوما إلي قرارات تقع ما بين الانتحار أو الاستسلام، وبين طلب المستحيل أو الانبطاح. وفي كل مرة كان ذلك حصادا مرا لم يكن أبدا لدي أحد الشجاعة للسؤال لماذا كان ذلك ضروريا كذلك ؟!.