من المرتقب أن يتجه "إيهود أولمرت" زعيم حزب كاديما الحزب الأكبر والأوفر حظاً في الكنيست الإسرائيلي الحالي السابع عشر قريباً إلي واشنطن في زيارة رسمية لها بدعوة من الرئيس جورج بوش، حسبما جرت عادة توجيه دعوة مماثلة لكل رئيس وزراء إسرائيلي جديد إلي واشنطن. ومن المؤكد أن ما سيقوله بوش لأولمرت خلال هذه الزيارة، ستكون له أهميته الفائقة فيما يتعلق بمستقبل الشرق الأوسط. غير أنه لا يزال مجهولاً بعد إن كان بوش مدركاً لحقيقة ما إذا كان لإسرائيل أن تنعَم بالأمن والسلام الذي تنشد، وإن كان لواشنطن أن تصب ماءً في نار الغضب الشعبي العارم علي سياساتها في العالمين العربي والإسلامي، وما ينطوي عليه ذلك الغضب من مخاطر جمة تهدد نفوذها ودورها، فإنه لا مناص من إعطاء الأولوية القصوي لإبرام صفقة سلام إسرائيلي- فلسطيني في أقرب وقت ممكن. ولكن ما هي الفرص الفعلية المتاحة لإحداث طفرة جادة في هذا المنحي؟ من أسف أن المؤشرات لا تبدو مبشرة ولا تحمل الفأل. فأغلب الظن أن يكرر أولمرت المنهمك حتي أذنيه حالياً بتشكيل حكومة ائتلافية عقب الانتخابات الأسطوانة الإسرائيلية المشروخة ذاتها، القائلة بعدم وجود شريك فلسطيني، يمكن الحوار والتوافق معه، علي صفقة سلام ترضي طموحات الطرفين. والشاهد أن هذه ليست سوي فِرية إسرائيلية حبكت منذ عدة سنوات، ليس المقصود منها سوي التستر وراءها، واتخاذها ذريعة للهرب من أي تفاوض مع الفلسطينيين. لذا فإن المرجح أن يواصل "أولمرت" دعواته لحركة "حماس"، التي جري تحويلها ذهنياً إلي "عفريت إرهابي"، رغم تشكيلها للحكومة الفلسطينية الجديدة! وفوق ذلك وقبله، فمما لا ريب فيه أن يسعي "أولمرت" إلي دعم أمريكي لخطته الجديدة الرامية إلي ترسيم الحدود النهائية لإسرائيل أحادياً ودون التفاوض عليها مع الفلسطينيين، مع العلم بأنها تلتهم مساحات واسعة في عمق الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. وكم كانت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، علي درجة من التهور، بتصريحها الذي أدلت به أثناء زيارتها لبرلين الأسبوع الماضي، حيث رجحت احتمال مساندة بلادها لخطة الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من الضفة الغربية. وكان من الحكمة والدبلوماسية أن تتوخي الوزيرة الحيطة والحذر فيما تتفوه به من كلمات تحسب عليها وعلي بلادها. وعلي رغم هذا كله، فإن هناك بصيصاً من أمل يبرق في لجة هذا المشهد السوداوي المشئوم. ويتمثل هذا الأمل في أمرين، أولهما مؤشرات ودلالات الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة التي جرت في الثامن والعشرين من شهر مارس المنصرم. فقد أفضت هذه الانتخابات إلي هزيمة ماحقة لحزب "الليكود"، بل وللمعسكر الديني الوطني "اليميني" برمته، مما يعني هزيمة التيار الأكثر تشدداً ودفاعاً عن السياسات التوسعية، مقابل التحول الواضح في الرأي العام الإسرائيلي باتجاه "اليسار" المعتدل. وإن كانت ثمة دلالة لهذا التحول، فهي تكمن في احتمال توفر الأرضية السياسية التي يمكن إبرام صفقة تسوية مرضية ومقبولة عليها. أما ثاني المؤشرات، فيتلخص في أن "الكنيست" الإسرائيلي يتألف من 120 عضواً، والمرجح هو أن يعمد "أولمرت" إلي تشكيل حكومة ائتلافية تضم حزبه كاديما الذي يحظي ب 28 مقعداً من مقاعده، وحزب "العمل" الذي يقوده عمير بيريتس (20) مقعداً، إلي جانب 7 مقاعد أخري فاز بها حزب المتقاعدين الجديد وهو حزب يضم كبار السن ، وهناك 13 مقعداً آخر فاز بها كل من حزب "شاس" الممثل للتيار اليميني المتطرف وحزب "مزراحي" المؤلف في معظمه من أعضاء الطبقة العاملة الإسرائيلية. وتستطيع هذه الأحزاب الأربعة مجتمعة، تشكيل كتلة برلمانية قوية، قوامها 68 مقعداً، يتوقع لها أن تحظي بتأييد حزب "ميريتس" اليساري المتطرف (4) مقاعد، فضلاً عن تأييد الأحزاب العربية (10) مقاعد. لكن لكي يصيب "أولمرت" نجاحاً في مسعاه القيادي، فإنه لابد له من الشجاعة والرؤية السياسية الحصيفة، وإلا فما جدوي قوة الائتلاف الذي يقف من خلفه ويؤازره؟ وأول ما تتطلبه هذه الشجاعة والرؤية، أن تكون له القدرة علي تجاوز ما أعلنه في برنامجه الانتخابي، إلي ما يفضي إلي السلام حقاً مع الفلسطينيين. وها هي اللحظة المناسبة التي تعين فيها عليه أن يدرك خطل الترسيم أحادي الجانب لحدود دولته، وفرض تلك الحدود فرضاً علي جيرانه الفلسطينيين. والمأخذ الرئيسي علي هذه الخطة، أنها تكون لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت... أي أنها لا تحقق لإسرائيل الأمن والسلام الذي تنشد، ولا هي من نوع تلك السياسات التي يقرها ويعترف بها المجتمع الدولي. وعلي "أولمرت" أن يدرك أن آخر ما يمكن أن يقبله الفلسطينيون، هو ضم القدسالشرقية ووادي الأردن والمستوطنات الإسرائيلية الكبيرة التي تصادر نحو 21 كيلومتراً من أراضي الضفة الغربية إلي حدود دولته. وليعلم أن ردة فعلهم علي هذه التوسعات الجائرة، ستكون عنيفة وقوية وحادة. وإذا كان "أولمرت" علي قدر عزم رجل الدولة بحق، فإن عليه أن يوجه دعوة إلي إسماعيل هنية، رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد، إلي مقره في إسرائيل ويبدأ معه مفاوضات مفتوحة ومباشرة حول الوضع النهائي. ومما لاشك فيه أن من شأن خطوة تاريخية كهذه، أن تغير ملامح المشهد الشرق أوسطي بمجمله، وتسجل اسم "أولمرت" بأحرف من نور في كتب التاريخ. وفي غضون ذلك، ينبغي علي "حماس" أن توضح للعالم موقفها من كافة القضايا الأساسية المتعلقة بالحرب والسلام، والحدود واستخدام العنف. وعلي رغم تأكيدات رئيس وزرائها إسماعيل هنية، التزام حكومته بإبرام صفقة سلام عادلة ونهائية مع إسرائيل، إلا أنه لم يجد أذناً تصغي إليه، سواء في واشنطن أو في تل أبيب. فهل تصغي إليه العاصمتان؟