تحرص الولاياتالمتحدة من وقت لآخر علي تجديد استراتيجيتها للأمن القومي وتحديث المفاهيم التي تقوم عليها استجابة لأية متغيرات دولية أو داخلية طارئة الأمر الذي يتطلب إعادة التفكير في هيكل الاستراتيجية الموجودة وتعديل مضمونها. وكانت آخر وثيقة لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي قد صدرت في سبتمبر 2002 بعد مرور سنة علي أحداث 11 سبتمبر 2001 ________________________________________ وتضمنت بفعل تأثير الحدث علي الأساس الفكري لغزو العراق في مارس 2003 بعد أن كانت الولاياتالمتحدة قد انتهت من غزوها لأفغانستان واحتلاله. والآن وبعد ثلاث سنوات من غزو العراق، ومع تراكم الأحداث والتجارب والتحولات، قررت الإدارة الأمريكية الخروج بوثيقة جديدة للأمن القومي تأخذ في الاعتبار المتغيرات التي طرأت منذ سبتمبر 2002، وترسم للدبلوماسية الأمريكية بشقيها السياسي والعسكري إطارا جديدا للتفكير والعمل. وقبل أن نتحدث عن العناصر الجديدة في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي كما برزت في وثيقة مارس 2006، يجب الإشارة إلي أن مهمة استراتيجية الأمن القومي لأية دولة هي التعبير في فترة زمنية معينة عن رؤية هذه الدولة لطبيعة التهديدات الخارجية والداخلية الموجهة إليها، والطريقة المثلي للتعامل مع هذه التهديدات سياسيا وعسكريا. لذلك يترتب علي صدور وثيقة للأمن القومي بمعناه الشامل صدور وثائق أخري لاستراتيجيات فرعية عسكرية وسياسية واقتصادية تنطلق في أفكارها من عناصر الوثيقة الأساسية. وقد حدث ذلك بالفعل في مارس 2006 بصدور وثيقة جديدة للاستراتيجية العسكرية الأمريكية في مواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهو التهديد الذي أعطته الوثيقة الأم أهمية خاصة. ولو نظرنا إلي الخلف خلال الخمس عشرة سنة الماضية، وقرأنا استراتيجيات الأمن القومي الأمريكي المتتالية التي صدرت خلال تلك الفترة القصيرة نسبيا، لوجدنا تغيرات مثيرة جرت منذ بداية أفكار إدارة كلينتون المتفائلة في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، ونظريته في خفض الإنفاق العسكري، وحل النزاعات عن طريق الدبلوماسية النشطة، مرورا بتغير هذه النظرة الوردية للعالم نتيجة التصاعد التدريجي لعمليات الإرهاب، ثم إجراء الهند وباكستان لعدد من التجارب النووية، وما تلاها من اشتعال حرب كوسوفو، وانهيار عملية السلام في الشرق الأوسط قبل مغادرة كلينتون للبيت الأبيض بأسابيع قليلة. لقد تسلم بوش الابن المسئولية والعالم يتململ تحت ضربات الإرهاب التي وصلت إلي قمتها في أحداث 11 سبتمبر وصارت مصدر الإلهام الرئيسي لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي صدرت في سبتمبر 2002، وفي إطار هذه الاستراتيجية، طرح المحافظون الجدد أفكارهم التي تميل بشدة إلي استخدام القوة في التعامل مع التهديدات بطريقة وقائية/استباقية/إجهاضية تعطي الأولوية للعمل المنفرد أو مع من "يرغب" في مشاركة الولاياتالمتحدة في حربها ضد الإرهاب وضد الدول المارقة طبقا لتعبير هذه الاستراتيجية. ولاشك أن تجربة حرب العراق، وما نتج عنها من تكلفة مادية وبشرية فادحة بالنسبة للولايات المتحدة، كانت وراء التفكير في صياغة استراتيجية جديدة للأمن القومي الأمريكي تأخذ في الاعتبار دروس التجربة العراقية والتغيرات التي حدثت في العالم خلال السنوات الثلاث الماضية وهي كثيرة ومهمة بدرجة لا يمكن تجاهلها. خلال ثلاث سنوات فقط أصبح للولايات المتحدة ما يقرب من ربع مليون جندي في منطقة الخليج وما حولها، وصار لحلف الناتو وجود فعال في المتوسط وأفغانستان والعراق والسودان، وخرجت اليابان من قمقمها وشاركت أمريكا بإرسال قوات إلي العراق، وصار لها وجود بحري ملموس ودائم في بحر العرب والمحيط الهندي. وقد برزت الصين والهند كقوتين واعدتين اقتصاديا وسياسيا قاما بمد نفوذهما إلي منطقة الشرق الأوسط والخليج وإفريقيا. وفوق كل ذلك بقي الإرهاب الدولي ضاغطا علي المناخ العالمي، ووصلت بعض الحركات الإسلامية المتطرفة إلي الحكم، واقتربت دول جديدة من امتلاك التكنولوجيا النووية والقدرة علي تحويلها إلي سلاح نووي كما هو حادث حاليا مع إيران وكوريا الشمالية. هذه هي الخلفية التي بُنيت علي أساسها استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في صورتها كما صدرت في مارس 2006 خلفية نلحظ فيها المستمر من الماضي القريب والبعيد بجانب المستجد الذي فرض تحولات جوهرية في رؤية التهديد والوسائل والأدوات المتعاملة معه. حتي الأشياء المستمرة _أو القديمة- تأثرت بالنظرة الجديدة إلي الأمور. لقد كان أهم ما برز في الوثيقة القديمة مبدأ الحرب الوقائية/الاستباقية/الإجهاضية والتي فجرت جدلا واسعا حول قانونية مثل هذا النوع من الحروب وجدواها وآثارها الجانبية. لقد كانت حرب العراق تطبيقا عمليا لذلك المبدأ حيث كانت الخطوة الأولي التي سبقتها: الإفصاح عن إدراك عميق عند الولاياتالمتحدة وبريطانيا بامتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل. ثم تلتها الخطوة الثانية: البحث عن أية أدلة لإعطاء مصداقية للتهديد المتخيل. ثم الخطوة الثالثة: القيام بعملية غزو عسكرية ضد العراق برغم أنف مجلس الأمن وبالتحالف مع من يرغب من الدول في الوقوف ضد هذا الخطر المفترض من وجهة نظر الولاياتالمتحدة. هذا المبدأ _ مبدأ الحرب الوقائية _ لم يتغير في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة (مارس 2006)، ولكن أصبح تطبيق المبدأ مختلفا عن طريقة تطبيقه في السابق. أولا: تم التأكيد علي أن هذا المبدأ لم يكن جديدا وكان متضمنا بشكل أو بآخر في كل استراتيجيات الأمن القومي السابقة. فمن غير المعقول في أية استراتيجية مهما كانت توجهاتها الفكرية أن تتجاهل فكرة "الوقاية"، وأن تترك الخطر يتضخم أمامها حتي يقع الضرر، وأحيانا يكون الضرر المتوقع فادحا. التعديل في الاستراتيجية الجديدة ينصب علي تعريف الحد الذي يبدأ من عنده التحرك عسكريا، ومدي مصداقية عملية التيقن من أن الخطر موجود بالفعل وليس شيئا مفترضا أو "مفبركا". ثم الدعوة هذه المرة -علي عكس الاستراتيجية القديمة- إلي إعطاء الفرصة للسياسة والنصح والحوار قبل الانتقال إلي السلاح. الاختلاف الثاني بين الوثيقة الجديدة والقديمة: هو انخفاض مستوي الغطرسة والنزعة الفردية في التعامل مع الدول والمؤسسات الدولية الأخري. فلم يعد أحد الآن في الإدارة الأمريكية الحالية يردد مبدأ "من ليس معنا فهو ضدنا"، بل تتحدث الاستراتيجية الجديدة عن العمل مع "الأصدقاء" و "الحلفاء" والعالم ومجلس الأمن والأمم المتحدة. ويعتبر ذلك تغيرا مهما مقارنة بما كان موجودا في استراتيجية الأمن القومي السابقة. الاستراتيجية الجديدة تؤكد أيضا علي أولوية مكافحة الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل وحل المنازعات لكن من خلال آليات جماعية دولية وإقليمية وهذا أيضا تطور مهم في الفكر الأمريكي. الشئ الذي أكدت عليه الوثيقة الجديدة هو مركزية التحول الديمقراطي في الدول غير الديمقراطية من منطلق أن مثل هذا التحول يدعم السلام ويدفع بالتطور والتنمية إلي آفاق جديدة. هذه النقطة بالذات كانت محل اختبار عملي مهم خلال السنوات الثلاث الماضية في عدد من دول المنطقة مثل العراق وأفغانستان وفلسطين ومصر. لقد كان لتعثر مسيرة الحرب في العراق، واكتشاف الولاياتالمتحدة أنها في حاجة ماسة إلي مساندة القوي الأخري في العالم والقوي الإقليمية في الشرق الأوسط علي وجه الخصوص ، الأمر الذي دفعها إلي إحداث تغييرات في استراتيجيتها للأمن القومي من خلال تبني حرب وقائية "عاقلة" بدلا من حرب وقائية عمياء، وتفضيل التعاون الدولي والإقليمي علي العمل المنفرد، واستخدام الدبلوماسية كوسيلة لها الأولوية قبل اللجوء إلي السلاح. لكن المعضلة الحقيقية التي سوف تواجه الولاياتالمتحدة هي إعادة تأكيدها علي محورية قضايا التحول الديمقراطي في دول العالم النامي كهدف من أهداف استراتيجية الأمن القومي الأمريكي. لقد أدت تجربة التحول الديمقراطي خلال السنوات القليلة الماضية في عدد من البلاد إلي تقدم التيار الديني واقترابه من مقاعد السلطة بكل ما يعنيه ذلك من تبعات ثقافية وسياسية. فهل يتراجع هذا المبدأ مع الوقت، وتكتفي أمريكا بما كان سائدا من قبل _ أي نصف ديمقراطية ونصف ديكتاتورية- حسب الحالة. هذا ما سوف يسفر عنه التطبيق العملي للاستراتيجية المعدلة، وربما تحتاج أمريكا في ضوء التطبيق إلي تعديلها مرة أخري بعد ذلك.